- طاهر شمسان
العقل القطيعي هو عدد كبير من العقول التي تفكر في القضايا الخلافية بالطريقة نفسها وعلى نحو متماثل كما لو أنها عقل واحد يكرر نفسه في آلاف الأدمغة. والتماثل هنا لا يقتصر على محتوى التفكير وإنما يأخذ شكل اليقين المطلق الذي لا يقبل الشك بصحة المحتوى وصدقيته.
إن العقل القطيعي لا يقبل أبدا بأي عقل نزَّاع إلى الفرادة في التفكير وإنما كل عقل فيه يفكر بالطريقة نفسها ويكرر الفكرة نفسها كما هي مستقرة وراسخة وثابتة في كل العقول التي تتماهى مع بعضها لتشكل عقلا قطيعيا واحدا. أي أن كل عقل في القطيع لا ينتج الفكرة وإنما يحتفظ بنسخة منها وعلاقته بها ليست أكثر من علاقة الأرشيف بأي من محتوياته يقدمها فورا عند الطلب للدلالة على جاهزيته وجودة عمله من منظور مؤسسيه ومستثمريه.
والعقل القطيعي منتج طبيعي لأنماط التنشئة الأيديولوجية التي تقوم على مبدأ التفكير نيابة عن الناشئة. والتفكير بالنيابة يقوم على تلقين المتلقي أفكارا جاهزة يحفظها ليسترجعها كما هي. وهذا على الضد من أساليب وطرائق التنشئة العقلانية التي لا تفكر بالنيابة عن المتلقي وإنما تزوده بقواعد التفكير المستقل التي تجعل منه ذاتا متفردة لا تكرر غيرها من الذوات. وفيما يلي سنحاول مقاربة العقل القطيعي كما يتجلى في مجرى الحياة:
إذا سألنا متدينا مسلما راشدا: هل أنت على دينك بالوراثة أم بالعقل؟ الجواب المتوقع في غالب الأحوال هو: “لقد وجدت نفسي مسلما بالوراثة، لكن عندما كبرت وتعلمت وفهمت الحياة أدركت أن ديني متسق مع المنطق وأنه عين العقل وأن غيره من الأديان قد تعرض للتحريف أو أنه في نشأته وضعي باطل مجانب للصواب”. وإن نحن طرحنا هذا السؤال نفسه على متدينين بوذيين وهندوس ويهود ومسيحيين…. الخ فإننا في الغالب سوف نحصل على الإجابة نفسها.
والسؤال الذي نطرحه الآن: ما هو الثابت وما هو المتغير في إجابات أتباع الديانات الخمس المذكورة أعلاه؟ الأرجح أن الإجابة المتسرعة على هذا السؤال ستذهب إلى القول بأن المتغير هو الديانات التي يدين بها هؤلاء الناس، وأن الثابت هو العقل الذي وهبه الله بالتساوي للبوذي والهندوسي واليهودي والمسيحي والمسلم. والملاحظ على هذه الإجابة أنها تأسست على اعتقاد خاطئ مؤداه أن العقل معطى جاهز، أو قل “نعمة” منَّ الله بها بالتساوي على كل البشر على اختلاف الأمكنة والأزمنة وتعدد الثقافات وأنه في كل الأحوال قادر على التمييز بين الحق والباطل. ولكن إذا كان العقل هو الثابت فلماذا تعددت إجاباته بتعدد الديانات المذكورة أعلاه؟
إننا أمام ديانات خمس وإجابات خمس، ولو أن العقل هو المعطى الثابت عند أتباعها لرست إجابته على واحد من الاحتمالين التاليين: (1) كل الديانات الخمس منافية للعقل (2) ديانة واحدة فقط متسقة مع العقل والأربع الأخرى منافية له. أما أن تكون جميعها متسقة مع العقل على ما بينها من اختلافات جوهرية فهذا مما لا تقبله قواعد التفكير المنطقي.
إن الإجابات الخمس أعلاه لم تجمع على اتساق ديانة واحدة بعينها مع العقل واعتبار الأربع الأخرى منافية له، وما حدث هو أن كل عقل تحيز لدين صاحبه ليراه عين العقل بينما رأى العقل غائبا في الأديان الأخرى. وتفسير ذلك أن كل متدين لا يعرض دينه على العقل العلمي الموضوعي وإنما على العقل الأيديولوجي شديد الصلة بدين صاحبه. ولهذا يقال إن كل عقيدة تنتج عقلها الذي يتقبلها وينافح عنها ويرفض غيرها من العقائد. ولذلك من المستحيل على العقائد أن تتعايش إلا في دولة ديمقراطية حديثة لا تقحم الدين في المجال العام لتتغول به على المجال الخاص، ومثلما يسري هذا على الأديان يسري على المذاهب في الدين الواحد.
وحري بنا في هذا السياق أن نذكَّر القارئ اللبيب بالمقرر الجامعي المسمى “علم الأديان المقارن” الذي يدرس في الجامعات اليمنية على أنه “ثقافة إسلامية”. إن كلمة “علم” وكلمة “مقارن” توحيان منذ الوهلة الأولى أن العقل الذي صاغ هذا المقرر هو بالضرورة عقل علمي موضوعي. لكن التعاطي مع هذا المقرر يكشف لنا أنه لا علاقة له لا بالعلم ولا بالمنهج المقارن وإنما هو -من الغلاف إلى الغلاف-مجرد شحن أيديولوجي قائم على تقديس وتكريس قراءة متخلفة للإسلام وازدراء وتسفيه الأديان الأخرى بما في ذلك المسيحية واليهودية. ولتفادي الآثار السلبية الجهادية لمادة “الثقافة الإسلامية” يجب إلغاء هذه المادة من المقرر الجامعي واستبدالها بمادة “الثقافة الوطنية”. وهذا ما سيحصل بالتأكيد عندما يضع اليمنيون أقدامهم في الطريق المؤدي إلى الدولة الحديثة طال الزمن أم قصر.
قد يقول قائل: ما هذا الهراء؟ كيف تقول إن الدين ينتج عقلا محابيا له ومجافيا للعلمية والموضوعية؟ وحتى لا نقع في هذا المحذور علينا أن نضع حدودا فاصلة بين الدين والتدين. فالدين هو الإيمان بالله وهو الأخلاق الكلية العابرة للثقافات، وهو بطبيعته ثابت لا يتغير وواحد لا يتعدد ومطلق لا يعرف النسبية ومتعالي، وهو حاجة إنسانية لكل فرد تؤرقه أسئلة وجودية كبرى تتصل بما قبل الحياة وما بعد الموت.
أما التدين فهو الممارسة البشرية للدين، أي أنه الدين وقد نزل من عليائه إلى التاريخ والتحم ببشرية المتدينين. وإذا كانت الواحدية من طبع الدين فإن التعددية من طبع التدين الذي يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة ويتنوع بتنوع الثقافات ليتجلى بعد ذلك على شكل مذاهب وطرق وأيديولوجيات –متصارعة في الغالب-تتفاوت في اقترابها وابتعادها عن جوهر الدين.
وعندما نقول إن كل عقيدة تنتج عقلها الخاص المنافح عنها والرافض لغيرها فإننا لا نقصد بذلك الدين وإنما التدين، ولذلك نستطيع أن نتحدث عن عقل شيعي جعفري وعن عقل سني وهابي دون أن نكون قد جافينا حقائق الواقع الذي بيَّن ويبيِّن لنا أن العقل الشيعي يقبل بأشياء يرفضها العقل السني.
ليست العقائد الناجمة عن التدين هي وحدها من ينتج عقلها القطيعي المنافح عنها والرافض لغيرها من العقائد وإنما العقائد المسماة “وضعية” هي الأخرى تنتج عقلها القطيعي الذي يستميت دفاعا عن أباطيلها كما لو كانت حقائق. ولا فرق في هذا بين الأيديولوجيات الوطنية والقومية والأممية. ولكيلا نذهب بعيدا يكفي أن ننظر إلى خارطة الأحزاب اليمنية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار (علما أن مفهوم اليمين اليسار لا ينطبق على الأحزاب اليمنية). ونحن عندما نسميها “أحزاب” فإننا نفعل هذا من قبيل التجاوز لأنها عمليا ليست أحزاب بالمعنى الحديث للحزب الذي يقبل بالتنوع داخله مثلما يقبل به خارجه. إنها حالات أيديولوجية تتماهى العقول في كل منها لتشكل عقلا قطيعيا واحدا، والمحزن حقا أنها لا تنظر إلى عقلها القطيعي كحالة مرضية يلزم التخلص منه وإنما تراه دليل عافية يحفظ لها تماسكها الفكري والسياسي والتنظيمي، ولهذا تقاوم بشدة أي نقد يكشف عن عقلها القطيعي وتربي أعضاءها على وجوب هذه المقاومة حد التطرف. والآن لا بأس أن نختم مقالنا هذا بحكاية شديدة الصلة بالموضوع.
منذ أيام كنا في لقاء ودي ضم بضعة أسماء من قيادات الحزب الاشتراكي اليمني وآخرين من خارجه. وعندما جرنا الحديث إلى السياسة قلت: نحن في الحزب الاشتراكي اليمني ليس لدينا رؤية للدولة الحديثة التي نتغنى بها على مستوى الشعار ونعتبر أنفسنا ممثليها الحقيقيين، ولا نملك رؤية للقضية الجنوبية، كما وليس لدينا رؤية لإخراج بلادنا من مستنقع الحرب الراهنة. وقبل أن أنتهي من كلامي هذا كان صوتي قد تلاشى وسط صراخ الاشتراكيين الذين نفوا صحة ما قلته مؤكدين –كالعادة-أن الاشتراكي هو الحزب الوحيد الذي يملك رؤى لحل مشاكل هذا البلد.
والحقيقة أن الأحزاب اليمنية كلها على ما بينها من خلافات واختلافات تتشابه جدا في كونها ذات عقول قطيعية ممانعة للتفكير العلمي الموضوعي وغير مؤهلة لإنتاج رؤى وتقديم حلول لمشكلات اليمن، ومعظمها – بل كلها-يعيش بدون برنامج بما في ذلك الحزب الاشتراكي اليمني الذي يعيش دون برنامج تنفيذي منذ عقود.
ولكن أين هي مظاهر العقل القطيعي في هذه الحكاية؟ بعد أن انفض اللقاء عاتبني بعض الرفاق بلغة لا تخلو من نبرة الإنذار قائلين ما معناه: الملاحظ عليك أنك في الفترة الأخيرة لم تعد تتقيد بالضوابط الحزبية التي لا تجيز لك أن تقول كلاما كهذا خارج الإطار الحزبي، وأضاف أحدهم قائلا: إنك بهذا تنشر الغسيل بقولك خارج الحزب ما لا يجوز أن يقال إلا في إطار ضيق داخله.
ليس من الصعب ملاحظة أن كلام الرفاق هذا صادر عن عقل قطيعي يخلط بين العائلة كحالة أخلاقية قائمة على رابطة الدم التي لا فكاك منها باعتبارها رابطة غير مختارة وغير مفكر بها وبين الحزب كحالة سياسية قائمة على رابطة طوعية مختارة ومفكر بها ويمكن فك الارتباط بها بسهولة. والأسوأ من ذلك أن العقل القطيعي يبدي غيرة على الحزب الموجود في كل الوطن كما لو كان عائلة في بيت من غرفة واحدة. وعقل كهذا نجم عن تنشئة حزبية غير شفافة وغير ديمقراطية، وبغير تفكيك هذا العقل وإعادة الاعتبار للعقول التي اختزلت فيه من الصعب على الحزب الاشتراكي اليمني أن يعيد تأهيل نفسه للاشتغال الديمقراطي بالسياسة كشأن عام وإنما سيظل مشدودا إلى ماضيه الشمولي كحالة عاطفية ناجمة عن الالتحام التام بين كل ذات (كل عضو في الحزب) والموضوع (الحزب) إلى درجة تنعدم معها فرادة الأعضاء وقد تحولوا إلى كائنات مدجنة لا يستطيع أي منهم أن يتخيل نفسه خارج القطيع (العصبية الحزبية)، وهذه مشكلة خطيرة غير مقبولة في أحزاب البرامج التي لا تهتم باستقطاب الأعضاء من أجلها هي وإنما من أجل بناء المواطن الإيجابي القادر على الاختيار العقلاني والمفاضلة بين البرامج المتنافسة على خدمة الوطن والنهوض بالمجتمع.
وأخيرا: بمقدور أي اشتراكي يرى غير ما رأينا في هذا المقال أن يفند أفكارنا خدمة للحزب ولقضاياه الوطنية، ولا سبيل أمامنا إلا أن ندع الأفكار تتبارى في فضائها الخاص بعيدا عن أصحابها، أما ذهنية الخوف من نشر الغسيل فسوف تنتهي بنا كحزب إلى المقبرة، وما هذا المقال إلا باكورة لسلسلة مقالات نخرج بها عن مألوفات العقل القطيعي ونرمي من خلالها بأحجار ثقيلة في المياه الراكدة التي طالما أوهمتنا بأننا حزب الحداثة وأننا في الساحة رقم صعب، والحقيقة أن مثلنا اليوم كمثل حفيد كسول يعيش متطفلا على أمجاد وإنجازات جده المناضل. ولو أن هذا الحفيد عاجز عن الإضافة وحسب لحمدنا الله على ما نحن فيه، لكن كسله وعجزه وفشله تمادى كثيرا حتى وصلنا إلى ما نحن عليه وكأن شاعرنا العظيم البردوني كان يشير إلى أمراضنا حين قال: “فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري”.