- ماجد زايد
يكفي يا أصدقائي يكفي، كان زمنًا طويلًا من العناء والويل، كان أبشع ما أنتجته الحرب وأطرافها، كان أسوء بكثير مما تصنعه الأفلام التراجيدية المخيفة في فترات التاريخ الأشد سوداوية على البشر، يكفي يا أصدقاء ما عانيتموه وتجرعتوه وتخيلتموه حتى اليوم، يكفي ما كان يجري حولكم وخلفكم ووراء أحلامكم وتعاستكم، لقد قدمتم أكثر بكثير مما يجب، لقد واجهتم مصيركم المجهول في أبشع ردائاته السوداء، يكفي الى هنا، يكفي صدقوني، لقد أدرك الشعب هذا أيضًا وتغيرت لديه المفاهيم المطلقة وصار الجميع يعي ويفهم ما كان وكيف كان ولماذا حدث، صار الشعب يفهم بعمق مفاهيم النظال والكفاح والصمود ومصطلحات الزيف السياسي الفارغ من العاطفة الصادقة تجاه الوطن والأخرين..!
تذكروا هذا جيدًا يا رفاق..
في معتقلاتكم وسجونكم طيلة سنوات وسنوات كنتم تقضون حياتكم وأيامكم وأوقاتكم وتخيلاتكم بشكل متكرر وروتين واحد، كنتم تمارسون الحياة بشكلها الموجود بلا قدرة على تغيير شيء، هذا بالفعل، كنتم على الأقل مجرد ضحايا لكنهم مازالوا على قيد الحياة..!
ولكن هل تعلمون؟!
كان بعدكم قلوب ورؤوس وأباء وأمهات وأبناء وأخوة وأخوات وأصدقاء وأقارب خارج السجن يتجرعون أكثر مما تجرعتموه أنتم، ربما أضعافكم عشر مرات..!
ما أقسى خيالك اليومي أيها الشاب السجين وصورتك المنحوتة في رأس والدتك المكسورة.. في عجز والد.. في خوف أبناءك وجنون أشقاءك.. في شفقة وحسرة أخواتك البنات.. لقد تجرع الجميع من وراءكم الويل والزمن الشاق، لقد أوقف الجميع حياتهم لأجلكم، وظلوا بعد ذلك ينتظرونكم بالدموع والأحزان، هذا ما حدث، لقد أرهقتم الجميع بما هو خارج عن إرادتكم، لهذا يكفي صدقوني، يكفي إنجرار خلف مكائن المتحاربين والمتمترسين خلف معاناتكم، يكفيكم تصدرًا وظهورًا وارتباطًا بالتحريض والإنتقام، يكفيكم بطولات وتضحيات، يكفي قلوب أمهاتكم خوفًا ورعبًا وجرعات، يكفي صدقوني، يكفيهم ويكفيكم ويكفي كل شيء..!
في ذلك المساء الأول بعد العودة بينما أحد المعتقلين المحررين يجلس بجواري، كنا جميعنا نستمع لوالدته وهي تتحدث وتبكي وتضحك من ويل ما حدث لها، يومها ذرف قلبي الدمع وأنا أستمع لـ حكاية الوجع الكبير في نهاية فصلها الأخير، قلب الأم هو أصدق ما ينبض ويقول في كل الحكايات الحزينة.
كان القلب الطيب يذرف الوجع على هيئة حكايات وشظايا من الألم والحسرة، حكايات ملأت المكان من فؤادها وأوجاعها، كانت ذكرياتها لا تمحى من الذاكرة، كانت مرارة الزمن القديم تختبئ بين حناياها وقد أرهقها الزمن الطويل من الغياب والتردد على السجون..
متى سيعود أبني؟!
هل سيعود حقاً ؟!
كان زمن طويلّ من الذكريات والوجع يا ولدي السجين، ليست الذكريات قاسية بقدر ذلك الظلم العظيم، الظلم هو أسوأ ما قد يصنعه الإنسان بالإنسان، لن أنسى كل ذاك الزمن على الإطلاق من هول البكاء والخوف على ولدي..!
كانت تقول وقلبها سعيد أخيرًا:
زمن اليأس والحزن بغياب الأبناء شاق ولعين، زمن الساعات السوداء، زمن الكوابيس عند منتصف الليل، صورة الحائط، إبني الصغير، روحه ما زالت بيننا، الأب يتفقد الفراش كل يوم ليكتشف أن الخيال مجرد سراب، تساؤلات الصغار البريئة كل يوم.. هل سيعود أبي؟! هل سيعود أخي؟! ربما لا.. هكذا يعرف الصغار من ملامح الكبار..!
غصة قاسية أصابتني يومها، لم أنم وأنا أتخيل كل هذا الويل، نفسي تتحسر على هذا القدر من الألم والوجع..!
هل يعقل كل هذا الظلم؟!
كل هذا القهر؟!
هل يحدث كل هدا للناس..؟!
يارباه ما ذنب قلب الام !!
ترى كيف كانت تقوى على البقاء بقلبها المفجوع ذاك؟!
والده، الرجل الكبير في السن، كان بالقرب يواسي الأخرين في البيت.. ما يصنع وفؤاده عاجز ومقهور أكثر، كان طيلة النهار يذهب ويعود، وفي المساء لا يتوقف عن التفكير، عن نجله السجين دائمًا، هل سيعود إبني؟! ربما سيعود !! وربما لا.!
طيف نجله الجميل لم يفارقه دومًا، هكذا في كل جرعة من خيالاته المتتكررة، منذ جاء إبني الصغير الى المنزل وكل شيء سعيد بقدومه وخروجه وعودته، كان يعود كل. يوم عشر مرات، هل سيعود ياترى ولو مرة أخيرة؟! ربما لا.. هكذا يقولون..!
لا أحد يعرف القهر أكثر من والد المعتقل بالظلم والإكراه..!
صدفوني يا رفاق الشقاء..
إنه وقتكم في الحياة، وقتكم الأخير وفرصتكم الأخيرة، عودوا اليها بشغف وابتسموا وأضحكوا لمن بكى طيلة سنين من شوقه اليكم، مارسوا أيامكم الجديدة وعوضوا زمن الغياب والخوف، عوضوا الأخرين عما تسببتم لهم به، هذا أقل ما يجب صدقوني..
لا تعودوا للحرب، لا تعودوا للتحريض ضد أحد، يكفي ما مضى وحدث، تجاوزوا ما جرى لكم في فترة السجن وأمضوا لحياتكم وأهاليكم، لا تكونوا مجرد معتقلين لمعاناتكم وما حدث، دعوا الأخرين واهدافهم وأمضوا لأهدافكم أنتم وغاياتكم أنتم وتمترسوا خلف أحقيتكم بتعويض الحياة فقط.
أخيرًا..
هي خيارين لا ثالث لهما، إما الحياة وتعويض الزمن الفائت وأما البقاء في ذات السجن الطويل، وهذا يحدث بمجرد تفكيركم بالإنتقام والتطرف والتحريض وممارسة الدور البطولي بعد فوات الأوان، لم يعد هنالك أي شيء لأحد، لقد تقاسموا كل شيء تقريبًا ولم يتركوا سوى الكروت السياسية والإعلامية والتحريضية، لا تكونوا بعد كل هذا مجرد كروتًا وأوراقًا يستخدمونها ثم يمزقونها أو يلقون بها في السجن ويتحدثون عليها في صفقات التبادل،، يكفيكم ما مضى وحدث، يكفيكم زمن الويل الأسود، لقد حان الوقت لأن تعيشوا مع أبنائكم وزوجاتكم وأهاليكم وأصدقائكم بهدوء وإستقرار، حياة بلا خوف ولا بكاء ولا ضياع ولا قهر ولا وجع، يكفي يا رفاق يكفي، دعوا الطريق لمن يريد ويستفيد، لمن لازالت خصومته طرية، دعوا هذا الحمل الثقيل لمن يريد البطولة في زمن اللآ أبطال واللآ أخلاق..
وتذكروا دائمًا..
الميول نحو الإنتقام الشخصي بتحريض سياسي إستغلالي، وتغليب أهداف المتمترسين على دروس الشقاء والتجارب الشخصية، واللامباله بمعاناة الأقارب لسنوات، تنتج فقط عن الاشخاص الأغبى والأضعف والأجبن وجالدي الذات..
هؤلاء في النهابة لا يمكن لأحد الوقوف معهم مجددًا أو إنتظار عودتهم ولو بعد الف عام.
ماجد زايد
هو رجاء أخير بإيصال هذه الرسالة لكل معتقل محرر.. رسالة يجب أن يقراوها ويعرفوها قبل أن يضيعوا مجددًا في لعبة الحرب والإستغلال.. هذه أمانة تجاه هؤلاء الناس المخفيين منذ أعوام..