- عبدالملك الحاج
في تلك الليلة القمرية كان السكون يخيم على قرية المغابشة الواقعة في اطراف الناحية، لا شيئ يقطع سكونها سوى نباح الكلاب او نهيق الحمير او تغريدة ذاك الطائر المعروف (بالقطوي) الذي كان يصدر بين الحين والآخر تلك النغمات الصاخبة المتسارعة والتي هى عبارة عن تحذيرات غالباً لا تصدر إلا في الحالات الطارئه وبالذات عند قدوم ذلك الحيوان الاسطوري المفترس المسمى بــ “الطاهــــــــــش”.
بعد منتصف تلك الليله يرتفع من اعماق القرية صوت صراخ مصحوب بأنين موجع يشق عنان السماء ويقطع سكون الليل، انه صوت (سعود) إحدى نساء القرية التي تتألم بشدة من مخاض الولادة.
يستمر صراخها حتى آخر نفس من أنفاس تلك الليلة، ومع ولادة غبش فجر ذلك اليوم الغمامي ولد بذات اللحظة المغبش…
إنه ذاك المولود القادم من رحم المعاناة ليستقر في هندول المآسي ويلف “بقماط” الحرمان..
رضع العشق من ضروع السحاب، وترعرع في السهول والانكآب، تكحل بالندى وتشقر بالغمامة، غازل الفجر وسامر النجم، سرى مع ساري الليل وجنح مع طيور الغباشش.
زرع الارض ليحصدها غيره، وصرب المحاجين والسبول وعند (اللباجه) لم يكن نصيبه منها سوى (الصولة والروغ والسطن) فكان المرهوك المخلوط باوراق العلفق المسمى (بالحلص) هو خبزه الوحيد ووجبته الرئيسية.
مع مرور الأيام كَبُرَ ذلك الفتى واصبح له جسما طويلا وعريضا ببنيه قوية، وسواعد مفتولة، وعينين واسعتين، ببشرته السمراء وقامته الممشوقه، اتصف بالشجاعة والقوة وذيع صيته في المناطق المجاورة…
تناقل الاهالي شجاعة وحنكة المغبش ومهاراته المتعددة فتصل صداها الى مسامع شيخ المنطقة الذي قام بإستدعائه ليعمل لديه في الأرض وما هى إلا ايام حتى اصبح المغبش أحد عساكر الشيخ الذين يتم الاعتماد عليهم في الأمور الهامة.
كان الشيخ نادراََ ما يذهب الى مقر الناحية وإذا ذهب فإنه يعود في نفس اليوم متاخراََ، او قد يبيت هُناك ليومين او ربما أكثر هو ومن يرافقه.
ذات يوم نهض الشيخ من مرقده قبل الفجر بقليل ونادى المغبش الذي كان نائما في المكان المخصص للحراس بجوار الدار كي يصحو من نومه ويقوم بتجهيز (البغلة) ويستعد لمرافقة الشيخ الى (حيفان) مركز الناحية.
يخرج الشيخ من داره ويصعد الى ظهر البغلة ثم يتجه نحو طريق مركز الناحية هو ومرافقه المغبش، عند وصلهم حيفان لم يستطع الشيخ انجاز معاملته التي ذهب من اجلها، اضطر للمبيت هو ومرافقه هناك في دار الناحية.
بعد ظهر اليوم الثاني اتم الشيخ عمله وفي بداية المقيل بديوان الحكومة يتقدم الشيخ الى “عامل الناحية” يستأذنه بالعودة الى قريته البعيده التي تقع في اطراف الناحية فأذن له العامل بالذهاب على ان يعود اليه الاسبوع القادم.
خرج الشيخ من بوابة الناحية وينهض المغبش الذي كان متكي في خارج مبنى دار الناحية مع بعض من مرافقي المشائخ الآخرين ويقوم بإحضار البلغلة الى امام الشيخ
يمتطى الشيخ بغلته الحمراء ويتقدم المغبش ليسير أمام البغلة حافي القدمين وعلى كتفه بندقية (فرنصاوي) وفي خصره يتحزم بمحزم الرصاص "الطيار"، وفمه ممتلى بالقات الذي يمضغه بشراهة، وفي يده يحمل الكلوات الشراري، وبين ارداف مشدته المطويه على رأسه كيس (التتن) المخلوط بقليل من الرماد وتسمى هذه الخلطة (بالدمبس) فيدس باطراف اصابعه بين الحين والآخر يأخذ (تلقيمة) ويضعها في احد جوانب شفته السفلى.
كان الوقت يقترب من العصر إنهم عائدون من دار الحكومة والطريق الى القرية لازالت طويلة واثناء سيرهم في الطريق يفتتح المغبش الحديث…
المغبش:
كيف رائيته يا شيخ اشتسبر ؟!!
الشيخ:
عوجه ما فيش حاجه تسبر عند الحكام والعمال.. لكن مو نعمل للرعية نقل لهم سدوا قالوا يشتو شرع الله.
المغبش:
محد يلاقي شرع الله هذي الأيام يا شيخ.
الشيخ:
قلنا لهم لكن اصحابنا ما يعجبهم الا اصحاب مطلع يعصعصوا لهم الرقاب، خبرنا مع يعجبش.
المغبش:
شُله مني ياشيخ.. شزلجوا يبيعوا الاحوال والشريعة ما اشتزلجش.
لقد قطعوا ثلثي مسافة الطريق من حيفان باتجاه القرية، كان الشيخ يواصل الحديث الا ان المغبش كان قد بدأ يشرد بذهنه تدريجيا فهو لا يرد على الشيخ الا بـ (ايوه او لا) فقط الى أن صمت بشكل نهائي، لكنه كان يحشو فمه بالمزيد من اغصان القات ويدس (بمشفره) (بتلقيمة دمبس) بين الحين والآخر.
كانت اشعة الشمس تحجبها الجبال، الوقت يمر والمساء يدنو بالاقتراب، بعد ان قطعوا ثلاثة ارباع الطريق ولم يتبقى إلا الربع منها..
يوقف المغبش البغلة وهو صامت…
الشيخ:
لمه استقمت يا مغبش!!
المغبش:
اشاك تنزل يا شيخ من فوق البغلة.
الشيخ:
لمو اتشا تنزلني.. مو حصل!!
المغبش:
ولا به شي.. بس شركب انا وا سيدي بدالك.
الشيخ:
مو تقول يا مغبش.
المغبش:
انزل قود البغلة وانا شركب.
الشيخ:
لا والله سوى.. مو قا جرى بك خينا قد طار القُشار، سير مش وقتك خلينا نسبق الغدر.
المغبش:
يوجه البندقية باتجاه الشيخ… لو ما تفهمش عربي شرطن لك فرنصاوي… اقول لك انزل قبل ما اجزعة تصفر بين انجافك.
الشيخ:
بلا قشاشة وَ مغبش.. قود البغلة… خيرة الله عليك.
المغبش:
اقسم برب العالمين، كلة الدنيا والدين، قاطع كل يمين، داخل خارج، طالع نازل، سارح راجع……… لو ما تنزل من فوق البغلة لا اكبنك اونه بهذا المحل واجزع لي.