- محمد ناجي أحمد
أفلام الميديا وصناعة قطيع الصورة
منذ عام 1990و(الصورة)تشق طريق سلطتها مزيحة من أمامها الحقيقة الواقعية ، ومهيمنة على الأذهان .
في الحرب التي أطلق عليها حرب الخليج الثانية كان العالم تحت سيطرة نظام الولايات المتحدة وسقوط القطبية المنقسمة على اثنين مع سقوط الاتحاد السوفيتي- شنت الولايات المتحدة تحت لافتة التحالف الدولي الذي جمعته- الحرب على العراق بدعوى تحرير الكويت، واستمرت في تطويقها واستنزافها للعراق ،وصولا إلى غزوه في 2003 ، فأمطرته بعشرات الآلاف من الصواريخ ، التي قتلت عشرات الآلاف ودمرت البنية التحيته للعراق ، من جسور ومبان حكومية ومستشفيات ومدارس ومصانع ومعسكرات وقصور رئاسية الخ…
استمرت الفضائيات الأمريكية والبريطانية والخليجية تنقل تدمير العراق من خلال تقديم صورة نظيفة ودقيقة للأجساد المتناثرة التي لا تعلق دماؤها بكاميرا التصوير والبث الفضائي. ليظل ذهن المشاهد معجبا بهذا التقنية الدقيقة والإحداثيات السوبرمانية والموت النظيف!
منذ ذلك التاريخ صار العالم تحت سيطرة مطلقة للصورة الحية ثم تسارع الزمن بحركته ليأتي لنا بالعالم الافتراضي، الذي أزاح الحقيقة وأصبحنا مجرد ظلال لها ، بل مجرد بنية ذهنية تنتجها الصورة ثم مواقع التواصل الاجتماعي!
من عباءة الـ((CNNكانت قناة الـ((MBC)و((BBC)وغيرها من القنوات الممولة خليجيا ، ثم جاءت قناة الجزيرة والعربية لتستكمل الدور بغزو العراق عام 2003م بتواز مع غزوه عسكريا!
كانت زاوية التصوير منظوريا يبدأ من عدسة الـ(CNN) ثم تستنسخ الصورة بتكرار مماثل في قناة الجزيرة والعربية وغيرهن، وكأنهن في حالة (كتف سلاح) أو (كتف كاميرا)!
(صاحب تعز) وقطيع الميديا:
تناولت مواقع التواصل الاجتماعي و(نجوم البث المباشر) لقضية المقتول تعذيبا عبد الله الأغبري ،وبثت مقاطع التعذيب التي تعرض لها، وقِيل عن تسريب تلك المقاطع والفيديوهات المصورة إن ضابطا في البحث الجنائي سربها ليقطع الطريق على الوساطات والضغوط!
وقيل كذلك بأن هذه التسريبات نتيجة صراع بين الأمن القومي الذي أسسه الرئيس السابق علي عبد الله صالح والأمن القومي(الوقائي) الذي أسسه الحوثيون!
وتم الحديث عن ضابط في الأمن (صاحب الضالع) ودوره البطولي في التسريب للفيديوهات!
صاحب تعز، صاحب الضالع، صاحب عدن، صاحب عمران الخ الخ.
بهذا الوعي والتوجيه المناطقي الطائفي يتم إحالة الناس من مواطنين إلى جهات ومناطق جغرافية. كان هذا التوصيف قد استوقفني حين تناولت مذكرات الشيخ عبد الله بن حسن الأحمر ، وتناولت ذلك في مقالة نقدية لمذكراته نشرتها في كتابي(الهويات الطاردة) عام 2010 ثم أعدت نشرها في كتابي (المذكرات السياسية في اليمن)2012م.
فقد استوقفني الشيخ عبد الله الأحمر وهو يصف سعيد حسن فارع، الملقب بـ(إبليس) لذكائه وسرعة تحركاته ونشاطه وتواصلاته بكل أطراف الحركة الوطنية، استوقفتني مذكرات الشيخ وهو يصفه بـ(صاحب تعز) وظل هذا التوصيف هو الملازم للشيخ عبد الله كلما جاء ذكر العملية الفدائي لسعيد حسن التي رتب لتنفيذها بالسخنة عام 1960م، وتم الوشاية به ، ثم اعتقاله ثم موته ، قيل انتحارا بعد أن عجز عن الهروب من سجن نافع بحجة!
في قضية(عبد الله الأغبري) الذي تم التعامل والانتصار لقضيته تحت لافتة (صاحب تعز) دُفِع الناس من جميع مديريات صنعاء للخروج بمسيرات منددة بجريمة قتل(صاحب تعز).
في مقابل هذا المشهد كان هناك مشهد صلب وقتل الطبيب(مظهر اليوسفي) في البيضاء، قيل بأن تنظيم القاعدة هو من قتله وصلبه. وهناك العديد من مشاهد القصاص التي قام أولياء الدم بتنفيذها بعد تسليم القتلة لها وفق طاغوت القبيلة، وتم تصوير مشهد القصاص تحت لافتة الثأر وفقا لقاموس العرف القبلي، مما يعطي رسالة واضحة وقوية عن أدوات العنف والثأر حين تكون بديلا عن الدولة، فالعنف لم يعد محتكرا للدولة !
في إزاء ذلك كان قتل (أصيل الجبزي) الطالب في السنة رابعة طب ، بطريقة بشعة ووحشية، قيل بترت إبهامه وقطع لسانه وعضوه الذكري، ثم تم قتله بعديد رصاص ورميه مكتفا إلى السائلة.!
جريمة قتل “محمد المهدي” الذي ظل يتابع ويطالب باسترجاع بيته وعمارته التي استولى عليها وتفيدها المسلحون باسم “المقاومة والجيش الوطني” فتم قتله ليسكتوا صوته المطالب ببيته!
وفي العديد العديد من جرائم القتل والفوضى كانت إدارة أمن تعز وشرطتها تصدر بيانات بخصوصها وتُكيفها على أنها جرائم قتل “ثأرية” أو (اشتباكات مفصعين) ومصطلح مفصعين اُستخدم للتواطؤ مع قتلة ينتمون “للجيش الوطني” بتمييع مسبق ووقوف مع القتلة من خلال هذه التوصيفات، التي تحيل الجريمة المنظمة إلى مجرد انفلات وفوضى محدودة!
في جريمة قتل (أصيل الجبزي) أصدرت شرطة تعز أن قتله كان ثأرا نفذه أولياء دم الأستاذ محفوظ ،الذي قتل باشتباكات حدثت أثناء محاصرة بيت العقيد (عبد الحكيم الجبزي) -قائد عمليات اللواء35-أبو أصيل، وبين مسلحي تابعين لجيش الإصلاح أو الجيش الوطني بتعز، فالتربويون المنتمون لتجمع الإصلاح أصبحوا ضباطا في الجيش إضافة إلى وظائفهم في سلك التربية والتعليم، وهذه ليست بدعة جديدة ، فالكثير من التربويين المنتمين لحركة الإخوان المسلمين في اليمن لديهم رتب ورواتب عسكرية منذ عقد الثمانينات، سواء في الأمن الوطني/السياسي أو غيره من فروع الأمن العام أو الجيش!
العديد من مشاهد العنف والجرائم ومن ذلك قتل وصلب الطبيب (مظهر اليوسفي) في محافظ البيضاء، تجعل القارئ يقف أمامها كجرائم وفوضى منظمة وليست منفلتة!
وسط هذا الكم من الجرائم والفوضى المنظمة والموجهة جاءت جريمة تعذيب وقتل “عبد الله الأغبري ” وتوجيه الناس للخروج بمسيرة منددة بجريمة تعذيب وقتل(صاحب تعز)!
في عدن في ظل سلطة (المجلس الانتقالي ) بل -وقبل سلطة المجلس الانتقالي- يتم تهجير الناس(الشماليين)وطردهم من أماكن أعمالهم وشحنهم بسيارات نقل جماعية…
وفي تعز حالة فوضى وانفلات منظمة تؤدي إلى قتل الناس في الشوارع وأسواق بيع القات والأسواق المزدحمة.
وفي البيضاء يكون القتل والصلب لـ” مظهر اليوسفي” من قِبل تنظيم القاعدة!
في مشهد مرعب كهذا ، القتل والجوع فيه يدفع الناس للمطالبة بـ(الدولة) كحاجة توفر لهم وتؤمنهم من الخوف والجوع، كسقف وحيد يبحثون عنه!
في جريمة تعذيب(عبد الله الأغبري) تم التعريف بالمقتول من خلال جهته ومنطقته الجغرافية، وكذلك تم التعريف بالقتلة بمناطقهم وجهاتهم الجغرافية!
كانت تضامنات مواقع التواصل الاجتماعي تنطلق من وعي مناطقي طائفي ، و بوابة ذلك الانتصار لـ(صاحب تعز)!
ليس هناك مواطن اسمه “عبد الله” لأنه ليس هناك وطن للجميع. فالتضامن مع “عبدالله” تحت لافتة (صاحب تعز)يتماثل مع طرد (الشماليين) (الدحابشة)من بسطاتهم ومحلات أعمالهم في عدن ، او قتل وصلب الطبيب (مظهر اليوسفي) في البيضاء، أو قتل(أصيل الجبزي) في تعز!
إنه القتل النظيف لوعي الناس والسيطرة عليه!
ما من جريمة خارج إطار الصورة وأدواتها!
يعُذّب ويُقتل “عبد الله” وتكون الأدوار جاهزة لنجوم البحث الجنائي والبث المباشر والمحاميين وقادة المظاهرات المسيرة وتحشيد عقال الحارات!
يتم قتل العميد عدنان الحمادي قائد اللواء 35،ويكون المفسبكون والمحامون جزءا من ضبط بوصلة المشهد وتوجيه مسار الجريمة وتكييفها!
لا شيء منفلت ولا مجال للصدف والاعتباط. وعلينا أن نترك التفكير امتثالا للصرخة التي أطلقها الإخوان في فبراير 2011م قائلين: “دعوها فإنها مأمورة” وأن نمتثل للصرخة المكملة لها والتي أطلقها الحوثيون عند سيطرتهم على صنعاء في سبتمبر 2014م،”الله أعلم حيث يضع رسالته “!
ما بين سلطة فبراير 2011 وسلطة سبتمبر 2014 وسلطة المجلس الانتقالي أصبح الناس يبحثون عن وطن واحد ودولة تؤمنهم من الخوف ومن الجوع ومن المرض وتمنحهم فرصة ليتعلموا ويفهموا ويتحرروا من مزرعة قطيع مواقع التواصل الاجتماعي والفضاء السيبراني، الذي حولهم إلى عبيد دون أن يمنحهم حاجاتهم الأساسية التي كان عبيد الإقطاع يحصلون عليها!