- ضياف البراق
إلى التونسية العزيزة: سامية البحري
كلنا مجانين يا سامية البحري، لا غرسنا شجرةً في القاع ولا رفعنا نجمةً إلى السقف.
كلنا في الوحول غرقى، وبالدماء غرقى.
لا أقدامنا في الأمل ولا أيدينا في اليأس.
ليس بأيدينا حتى ذلك اليأس الجميل، اليأس الذي يعني: التشبُّث بالحياة بأقل خسارة.
أمّا هذه الكتب الغفيرة، التي نؤلِّفها كل يوم، فغالبًا تموت قبل وصولها إلى المطابع. أو تموت جوعًا على الرفوف، أو تموت على الأرصفة، من الشيخوخة واليأس والغبار. إنها لا تجد من يقرأها سوى هذا الفراغ الجماعي القاتل. أو تموت المطابعُ من سمومها، ومخاوفها. ونحن، كما تعلمين، لدينا مطابع وطنية بلا حساب، ولكن ليس لدينا من أوطان في كل أرضنا الفسيحة.
تعبنا من المشي وراء المشي، لمجرد المشي، ولا خرجنا إلى طريق. قاطع الطريق ها هو يعيش بيننا، يُرفَع عاليًا فوق عذاباتنا، ومآسينا، ويُعبَد حتى الثمالة.
لا خرجنا من تاريخنا ولا دخلناه. ولن نرتحل إلى تاريخ آخر، ما دام قاطع الطريق يعيش بيننا، يَستقبِلُ كل أنواع العبادات، وينال أغلى الهدايا.
كلنا مجانين، والجنون ليس عيبًا. الجنون غير العبثي، خصوصًا. ولكنّ جنوننا هو الأكثر عبثية في هذا العالم. وعلى الدوام، تحترِقُ أرواحنا من فرْطِ جنوننا المُتخلِّف. ونتشظّى في أحلامنا، ونَخرُجُ منها منعوشين إلى أحلام جديدة، هي بالتأكيد مقابر أخرى. نعم، لنا أحلامٌ بسيطة قد تتحقّق مع الزمن، ولكنها أيضًا تُداسُ بأقدامنا القذرة. إذَنْ، لن تتحقق.
أحلامٌ بلا بيوت، أو بيوتٌ بلا أحلام.
وبيت العربي أوهن من بيت العنكبوت.
وعلى الأحرى، ليس للعربي من بيت.
وكذلك، ليس له من زمن ليعيش فيه.
ولعله أيضًا بلا كلمات. لقد ماتت كل العصافير في قلبه!
… ودموعنا تُداس بدموعنا.
لهذا، صارت تكرهنا حتى تلك الأحلام التي لا تعرف الكراهية. مشكلتنا الطويلة، والقاتلة، هي أننا لم نتعلم حتى الآن كيف نحلم، ولا متى نحلم. قطْعًا لن نتعلم. أحلامنا تُوْلد ميتةً أو مسحوقةً مثلما تولد أيامنا الفارغة. بل لا أيام لنا.
وهكذا، سنبقى نبكي باستمرار، نبكي ونتباكى على الجثث فقط، من أجل المزيد من البكاء والتباكي، والمزيد من القتْلِ والجثث، فقط. وها هو بكاؤنا السخيف يضحك علينا، ولعله يموت خِزْيًا من سوء حالنا الأبشع.
صدّقي نزيفي يا سامية، كلنا مجانين في مجانين، وجراحنا لا تعرف عنّا شيئًا. ونموت في كل مكان، لتعيشَ أوهامنا.
دائمًا كُنَّا بلا قلب. ثُمَّ، دائمًا نحن بلا صواب، وبالتالي، أصبحنا بلا وزْنٍ في ميزان الآخر.
ونركض كثيرًا، ونصرخ كثيرًا، لاهثين وراء أيّ شيء، ولكننا لا نتقدم خطوة واحدة في الحياة. إننا لحتى الآن ما زلنا نتراكض فوق بعضنا البعض، نتناطح هروبًا إلى أعماق الحُفَر البعيدة، إلى دواخل الظلمات، أكثرَ من حيوانات الغابة البدائية. فحيوانات هذا العصر ليست مجنونةً مثلنا. فلا غرابة، إنما نحن نُسدِّدُ الفاتورة الأغلى، أو باهظة الثمن، مقابل العقل الذي خلعناه ورمينا به بين أكداس القمامة. علينا أن ندفعَ الديةَ أضعافًا مضاعفة. ونحن إذ خلعنا العقلَ، إنما أعدمنا اللهَ الحق! وإذا شئتِ الحقيقةَ يا صديقتي، فنحن لا نعبدُ اللهَ، وإنما نأكله بالخناجر والسيوف والبنادق. نهدمُ كلَّ شيءٍ فوق عرشه، لتنهارَ عدالته أرضًا. والله في نهاية المطاف، لا يقف مع آكليه ضد نفسه، وضد الحياة. إنه لا يقف مع ظالِم نفسه، وإن كانَ هو مُطْلَقُ الرحمة والجمال، ورحمته وسعت كل شيء.
وبالرغم من كل ذلك، فسوف نظل نتزوج يوميًا، بأكثر من واحدة، لننجبَ الكثيرَ من العرب الطالحين، المعاقين نفسيًا وعقليًا وحضاريًا. ونشعل الثورات تلو الثورات، لنهدمَ المدنَ المعمورة ونبني المخيماتِ فوق الأنقاض أو في الصحراء. ثم نهدم المخيمات فوق أجساد الأطفال والنساء، لكي نصنعَ أمجادنا الزائفة من أشلائهم، ونسقي غرائزنا المتوحشة، وأفكارنا السامّة، من دمائهم البريئة المسفوكة ظُلمًا وعبثًا.
لديَّ أمل. لا تيأسي يا صديقتي الثائرة، بل ابتسمي بملء الروح لهذا الجرح المفتوح، فهكذا نحن من زمان، وربما هكذا سنظل!