- د. محمد المشرقي
تمثل هذه الغنائية المحطة الإبداعية الأكثر جمالا وبهاءً وقدرة على التعبير
هيمان.. بكل الجمال الرمزي فيها، وبكل ما تحمله من خيال وتجريب لغوي يستند على الغنائية في بناء النص .. كذلك المسافه والحزن النبيل.
بداية لعل نظرة سريعة على جمالية إيقاعات الموسيقى وإيقاعات النص لاستلهام ما بينهما من توافق وتطابق من حيث البنية، تمنح المستقرئ لهذه الغنائية ٳحساس عميق بأن وراءها خلفية عاطفية تكاد تكون حقيقة وتجسيداً لحب صادق صاعد من الأعماق.
كما يلمح المستقرئ المتذوق ٲيضا ولو بطرفة عين الصور والمعاني والأفكار الموحية والمعبرة عن الاتجاه أو الفكر الصوفي الخالص (النجوى) وهي واضحة جلية لا تتطلب من مكتشفها عناءً وجهداً وإن كان غير ملماً بهذا الفكر.
لا شك ٲن غنائة “هيمان” تمثل المحطة الإبداعية الأكثر جمالا وبهاءً وقدرة على التعبير لشاعرنا الفضول لأنه هندسها برؤى مختلفة، اختار القصيدة، اختار الشعر لينقل من خلاله ومضات إنسانية تحتاج إلى الكثير الكثير من حالات المعايشة والمكابدة، فاستطاع أن ينقلها لنا عبر سحر شعره، وعبر قدرته على شحن التراكيب والصور بدفق عاطفي قادر على أن يرفع من حالة التوثب للتحليق مع المعنى، وذلك ما نلحظه في المجتزأ التالي:
يا أنتي أبكيت صوت الرباب
يا دمعتي بَلًيت وجه التراب
يا لوعتي عذًبت حتى العذاب
وامهجتي كم ضاع فيها شراب
كأنها رملي وربـع الخراب
ووببراعة المتمكن من اللحن الفريد، شكلها وطوعها الفنان الكبير “أيوب” للتحليق بجناحيها عالياً، في فضاءات رحبة بعزفه الانفرادي وهو يعانق الأوتار ويغرق في النغمة المبدعة، ٳذ أجاد باللحن العذب المسترسل بمقامات موسيقية مؤثرة وبأسلوب أدائه الرائع تماماً لتصل إلى نفس المستوى الذي أجاد فيها “الفضول” بالخيال اللغوي وأسلوب نظمه لهذه القصيدة بمفردات كماً وكيفا حسب ما جاءت الدلالة اللغوية والاصطلاحية لها مساوية لمقاصده السياقية والمفهومية.
في المجتزٲ التالي نلحظ ٲن اللفظ والنغم يتعانقان ٳذ ٲدى كل من الشاعر والموسيقي دورهما بإتقان وقد وصلا إلى حالة من التوحد المختلف، وهذه العملية كبيرة بالنسبة للموسيقى التصويرية:
إلى الهوى والحب قلبي التوى
من فجر أيامي وصبح الشباب
وحينما عودي قوى واستوى
فصًلت أشواقي لعمري ثياب
وحري القول أن هذا الإحساس العجيب والشعور الفريد سيطرا على شاعرنا الفضول وهو ينحت أفكاره لإخراج هذه الغنائية الرائعة والتي تفهمها الفنان “أيوب” جيداً وعكسه لنا في مقاطع موسيقية وصلت مرحلة الركوز اللحني في لحظة أدائها لينطلق منها إلى قمة الإبداع الفني بجدارة واقتدار:
مسكين أنا مسكين قلبي غَوى
إذا سمع للحب داعي أجاب
وكلما حاسبت قلبي سَوى
أتى يغالطني ويثني الحساب
وان قلت قد أقفلت باب الجَوى
فتح لقلبي فيه عشرين باب
وان قلت قلبي من هواه ارتوى
حسًيت في حسٍي جفاف التراب
وان قلت تمًينا كتاب الهوى
أمسى الهوى عندي يؤلف كتاب
ثم يأتي الإيقاع والموسيقى في النص من صور البديع والترادف المعنوي والتوازن بين العبارات في ألفة عجيبة وانسجام رتيب:
وحيث مر الغيث والسيل سال
إذا رآني الورد قال لي تعال
خُذْ لك نَدى عندي وخُذْ لك ظِلال
يكفي ضمأ خَلًي الضمأ للرمال
يتجلى الٲداء البديع للفنان ٲيوب هنا في تكراره لمفردة “يا ورد” عقب كل صدر وعجز للٲبيات الشعرية التالية، وهو ما يمثل مرحلة النماء اللحني ويعكس لنا حالة تملُكِنا للإحساس المفرح والمؤلم على السواء، فتهيج أشواقنا للرؤية والتفكير في إيجاد وسيلة تواصل نفرغ من خلالها مشاعرنا ونخفف من لوعة أشواقنا وأشجاننا، وفجأة ندخل عوالم الحيرة، وهو ما يجسده المجتزٲ التالي:
محال أن يروى فؤادي محال
يا ورد وقلبي ما ارتوى من جمال
قد طال عهدي بين الأغصان طال
أختار لي منها الغصون الطوال
وأنا وقلبي بينها لا نزال
في المجتزٲ التالي كأننا هنا نرى رأي العين عناصر بيئية مجسمة مزهرة مخضرة حبا وشوقا تتدلى في انتشاء وتفوح في ارتواء شذي من روح العفاف..فكلاهما كان متفرداً في سماء القلب لأن كلاهما كان له فلك مختلف عن بقية الأفلاك:
واساريات الغيم تحت الشهاب
تُلًبس الدنيا حرير الضباب
قولي لمن خلى فؤادي وغاب
لا الشوق خلاني ولا القلب تاب
في المجتزٲ الٲخير يكرس الفضول هيامه ويضفي ٲيوب مزون لحنه..ٳذ يظهر للعيان نزاع نفسي عايشاه كل من الشاعر “الفضول” والفنان “أيوب” بين الهوى والأماني من جهة.. وبين معاناة الهوى والهيام المطلق واستحالة الأماني من جهة أخرى في محيط موبوء بالوجع والشجن ومثقلات الحياة، حيث التحليق والانطلاق عاليا برغم القيد وقسوة الحياة والتساؤل عن وقع عذاب الحب وحرقة الشوق.
هيمان حتى لو سكنت السحاب
لأصبحت قيعان فيها سراب
فهل أتى حُبٍي لقلبي عقاب
أو أنً إحراقي بشوقي ثواب
وختاما فٳن المستقرء المتذوق لهذه التحفة الغنائية البديعة يجد ذلك الإحساس بالتوحد.. إنه الولوج إلى جزيرة أخرى من جزر الفكر الإنساني الذي مال إليه شاعرنا الفضول وجنح به مبدعنا ٱيوب ٳلى ٲفياء الروح وزوايا الذاكرة..
10/8/2020