- ريان الشيباني
فكر، الموظف الحكومي المتململ المدعو حكيم، وهو يترجل حافلة جماعية في آخر نقطة وصول له، متسرنما، ومحمولا بجذع أوجعته طول الرحلة ورأس زوجته وقد ألقته على كتفه كحبحبة:
-لا أحد يدعك لتكون شخصا مشهورا.
وكما يسري على زملاء سفره الحاليين، حالف المدعو الحظ لمرة واحدة منذ سنتين ليصبح من ركاب الدرجة الأولى، أي في مقصورة السائق. ولولا مقامه كأمين صندوق لدولة مفلسة، لاتسعت لراكب رابع، وفي ظروف جيدة -كالتي نعيش رفاهيتها- لاتسعت لخامس.
ومن حقكم -بالتأكيد- السؤال عن الكيفية المخنثة التي عرف بها السائق مقام المدعو، ومن حقي أن أستسخف كسل أدمغتكم. كما تعرفون فإن المدعو -بالضرورة- شخصا حشريا، ويريد أن يبادل إحسان المقعد الأمامي، بنبذة تعريفية عن شخصه الكريم، لإثبات استحقاقه تبوء هذا المجد.
لكن ليلعنه الله من رجل بذاكرة واحد ميجا، تناسى أن من أوصله إلى هذه المكانة الرفيعة، ليلتان من السهر الاحتياطي، ومنبه هاتفه الذي يرن كل ست ساعات، ولولا حرصه على نفاد البطارية، ورفض جارته -الجشعة- إعادة شحنها، لأعاد ضبط المنبه كل ساعة ونصف. وأخيرا رن المنبه عند الساعة الثانية بعد منتصف ليلة السبت الحاسمة، أي قبل خمس ساعات من بدء سيء الذكر؛ سفره المضني هذا.
أما لماذا سيسافر المدعو، على هذا النحو العاجل، ويسمح باقتطاع يوما من إجازته الرسمية، فلأن هذه هي أوامر السلطات.. لقد قرر المسؤول الجديد عن مصلحته الحكومية، اختبار قدرته على الإدارة بجلب كامل موظفيه، إلى مكاتبهم قسرا برسالة SMS، ولو أن في ذلك مخالفة صريحة وواضحة للقانون. وعندما يكون البائسين مشغولين بالأمور اللوجستية المعقدة لتدبر حق الطريق؛ يكون تسويق أكذوبة القانون بين مواطنين من الدرجة الثالثة، مثل بيع الوزف لعشاق الهايدبارك.
في خضم كل هذا، تبقى الإشادة واجبة بجهدنا المبذول لمعرفة اسم الموظف المدعو، حيث وانه نسي بين ثرثراته ومحاولة كسبه للوقت، أن يسقط -ولو- بعرة، تدلنا عن اسمه الحقيقي، أو الجهة القادم منها..
إنه؛ أي الموظف -وليغفر الله تدخلنا الفج- متلهف للبحث عن وظيفة -وهو الموظف- في منعطفات الطرق السريعة، حيث تتاح للجميع إمكانية التفكير، بأن دوس السائق الطفيف على الكوابح، فرصة لالتقاط الأنفاس، وإصلاح النفوس التي كركب هيأتها الجلوس اللصيق وتحرش الركاب ببعضهم.
وهي مناسبة لنز العرق عن القسمات الحادة للنواصي، في الجو الخانق لحافلة تحمل طنا إضافيا من البشر فوق حمولتها، والشروع بالقول بجوقة واحدة مكرورة -هي أشبه بشهيق غرقى منها لالتقاط الأوكسجين:
- الحمد لله، لقد كتب لنا عمرا جديدا..
مع ذلك لا يني السائق ادعاء عرقلة المسافرين الرحلة، عند عناء بحثهم عن تفسير للإغلاق المحكم لزجاج النوافذ، في يوم قائض ومتطاول بالضرورة لأنه يسبق انتهاء إجازة العيد.
نعم، “كتب لنا عمراً جديداً”، هذه هي الجوقة المكرورة، التي تطاولنا -نحن الآخرين- لاستجلابها، تأثرا، على ما يبدو، بالمزاج العام للزملاء الأبطال، وقد اختاروا -ونحن معهم- الدرب السهل (الممتنع)، للنضال.
لكننا نقف عاجزين إزاء لهفة سائق الحافلة لطي الطريق على هذا النحو القاتل، طمعا في شوط ثاني، يستطيع فيه القول إنه يوصل الناس ليكسب، لا ليعود -خائبا- بحكاويهم التي يصير معها نوم المرء واكتئابه واجباً.
وزميلنا الموظف المدعو، في كامل الحق مع نفسه، وقد قرر ألا تتسرب من بين يديه هذه اللحظة، بصحبة مسافرين غرباء، لا يمكن أن يقول لهم -على سبيل المثال- إنني أتحدث اللغة الصينية، فيطلبون منه أن يثبت ذلك، فيفعل، ليضحكون ويبتهج معهم. لأنه أيضاً وبحكم رواسب الوظيفة العامة -وأوقات السلوى الطويلة التي تفرضها، اشتهر بكونه الخراط الأشهر مرورا على تاريخ الكذب.
لذا وفي مثل هذا الظرف الاستثنائي، نسمع المدعو يتباهي -بفم محاطا بالزبد- بامتلاكه، وظيفة حكومية، وخمس لغات ليس من بينها الكوستاريكية، وخمس سيارات، ووكالة سفر، ونقودا كالسيل، لكنه -كما يرجو- بحاجة لوظيفة ذات طابع ترفي، أو بالأحرى، وظيفة لا يمكن أن يتآمر على نفسه بوضع محددات في طريقها.
وبقاعدة أنه ليس من المعقول أن تقول “سيارتي” في حافلة رجل آخر، ولا تجمع بين مصطلحي نقود وحكومة، يقابل الركاب انفعال المدعو بإراحة أعصابهم، وقد التزموا صمتا خريفيا، يتحلى به -عادة- الأشخاص الواعين على قهرهم.
ولم نكن لنورد هذه التفاصيل الموجبة للضجر، لو لم نكن نتوخى، النية الحسنة لزميلنا المدعو، وهو الذي لا يخجل من مزج المقاصد الدنيئة للبحث عن ذاته، بالمقاصد النبيلة لبحثه عن عمل. لكنه وقد تذكر لوهلة، وبأسى بالغ -في ديباجة المديح الملحمي للحياة الحلوة التي يشغرها- تذكر مآل أنه موظف بدون وظيفة، وأمين بدون صندوق والأشد وقعا من ذلك، زوج دون راتب.
ثم فجأة، تنشب أزمة، هي من تداعيات جو التوتر العام، الذي فاقمه الموظف على نفسه. على إنه وأثناء انشغال زوجته بحلم جميل على كتفه -رأت فيه أنها تزف لرجل صديقتها الثري- أخرج الموظف يده من زجاج نافذة الرحلة نصف الموارب، واشترى -بتحريض من لحظات زهوه الكاذب- باكت من السيجار الرخيص، من بائع متجول، في مطب إسمنتي حاد أعد لهذا الكمين.
أما وقد انتزع، دخان السيجار، الزوجة من حلمها، وهي التي تعي -جيدا- أن السبب الوجيه لرغبتها برجل صديقتها، هو أنها قد تتاح لها فرصة ثمينة لتتزوج يمنيا من النوع الذي ظن الجميع أنه منقرض.. اليمني الباقي الذي لا تذكر زوجته -حين تأتي على مساوئه- ريحة فمه النتنة.
قالت الزوجة، للموظف، وقد اعتدلت، من يقظتها، مذهولة:
-من أين لك سيجار لتدخن؟
رد وقد استشعر -بارتباك- ضرورة أن يبقي على وضع سيطرته مفعلا:
-لماذا تسألين؟ اشتريتها.
تداعت الزوجة من الداخل، لإدراكها -الذي لا يمكن أن يخامرنا أدنى شك في صوابيته- بأن زوجها ارتكب حماقة، باستقطاع خمسمائة ريال من أجرة الحافلة التي هم بصدد الترجل منها بعد وقت قصير.
لقد ناضل الزوجان، على طول نهار كامل، للهرب من دفع فواتير الحياة، بادعاء، الصداع حينا، والخوف من الكوليرا أحيان أخرى، وأخيرا التذرع بأقساط العيد التي تقصم الظهر، ليتنصلوا من إلحاح سائق الحافلة عليهما، بضرورة تناول وجبة واحدة على الأقل، في مطاعم الطرقات السريعة.
نعم.. مطاعم الطرقات السريعة، التي تعوزها من وسائل الجذب، ندلها المتسخين، واسمائها الكبيرة، وصور العجول على واجهاتها، والصراصير.. لدى هذه المطاعم وجبات صراصير، لا تدرك أنها في الطبق إلا وقد تسلق الطريق إلى جيبك، سرب منها.. ليأتي زميلنا المدعو، ويبدد بلحظ العين، خمسمائة ريال، دفعة واحدة! تسعة وتسعون بنسا باللغة التي يفهمها موظفو عصرنا.. ثم ماذا؟
رفعت الزوجة من رأسها الحبحبة، ووجهت أمرا للسائق:
-أحس بالدوار. أوقف الحافلة.
لكنها لم تتنبه إلى تعديها على البروتوكول الشعبي. فمن المؤذي في الطريق العام أن توقف مسافرين متعجلين إلى وظائفهم لتخبرهم جملة قالها جاليليو قبل ستة قرون: إنها تدور.. وعلى أية حال، تطالب الزوجة -آسفة- بإهدار خمس دقائق من وقت موظفين حكوميين، ولا تدري ما الذي أقدمت عليه.
نحن أيضا لا ندري، إذا اعتقدت سذاجتكم أننا سنفعل.
وعند الثالثة عصرا، استغرق السائق بأسى في ذكرى وجبة مجانية، كان سيحوزها لو لم تنكبه الأيام بهؤلاء السادة المسافرين تقهقرا.. موظفي آخر زمان، إلى حيث يطلب القادة من الناس العمل قسرا، دون مقابل.
قال بيأس:
-يعني هذا أنكم قوم لا تتغدون؟
حشرجت الزوجة المكلومة بالخمسمائة ريال، ثم قالت لزوجها والعبرات تكاد أن تخنقها، وتضاعف من صرير هيكلها العظمي:
-إشتي أعرف من سماك حكيم.
من هنا، اطمئن لنا، أن ندعو الرجل الذي كان مجهولا قبل قليل باسمه. لكن زوجته وهي تجري مفردة “حكيم” على قلبها في هذا الموقف الكربلائي، يروقها أن تستجلبه بمتوالياته العكسية.. ليصير، هذا الحكيم، وقد اقترن في ذهنها الضآج بإهدار المال: سوء تقدير، وخراب.. بينما يتصاعد سائل الصفراء القلوي من معدتها الخالية. قالت، وقد أستبد بها الدوار:
-إن لم توقف حافلتك، سأتقيأ داخلها.
هنا، وفزعا، وجبت التضحية، وبلا أدنى استشعار لروح المسؤولية بالأوقات الماسية للناس.. وصار مراعاة الاعتذار إليهم من قبيل الوقاحة.. كبح السائق فرامل حافلته، وألتفت إلى ركابه المستحمين بعرقهم، والذين اصطدمت رؤوسهم للتو، بالمساند الخلفية لمقاعد زملائهم.
وبخبرة اكتسبها من مشاجرات الأزواج بجانبه في مقصورة القيادة، باشرهم السائق:
-مبروك.. حرم مدير الصندوق حامل، وسنقف لمباركتها كي تتقيأ.
وفي الخارج، بجانب صخور كلسية سوداء حاولت الزوجة أن تستجر شيئا لألى تبدو كاذبة، لكن بربكم ما الذي ستتقيأه، وأنتم تدركون أن برنامج تقشف المدعو، يتضمن فرضية أكل وجبة كل يومين؟
مع ذلك هناك فرصة سعيدة لأن تستثمر الزوجة في احتضارها الصغير هذا، لسرقة محادثة، قد تنتقص -إذا دارت في الحافلة- من العلو السامق الذي كرسه زوجها في نفوس قرنائه. خاطبته، وهو الثري النفس.. المسيطر، والمتحكم بشؤونه في مقصورة القيادة، والمحطم المتقرفص في العراء، العاجز والمنهوك بذكرى ورقة نقدية زرقاء مهدرة..
هكذا.. على هذا النحو خاطبته:
-والآن؟ أيش بتفعل يا مخنوث؟
حك من رأسه، وقال بغمغمة:
-سأقتل نفسي!
لم تظهر الزوجة أي انفعال، تجاه التهديد. فمن سنتين، وهي تعيش -فعليا- مع شخص صار الانتحار جملته الأثيرة، ويا لسوء حظه، ها هو ذا يعود ليختلق كارثة بقيمة خمسمائة ريال. ردت عليه:
-كان بودي أن تكون رجلا لتمتلك الجرأة. لقد عرضنا استهتارك للإعدام على يد سائق حافلة.
*
قال المدعو للسائق، بعد أن عاد إلى مقعده مغبونا:
-هل أمرتك أن تتوقف بجانب بائع السجائر؟
لم يفهم السائق الجملة على نحو متسق، غير أن انتباهه راح باتجاه، البائع الذي أشترى منه الراكب علبة سيجار، فرد دون أن يلتفت:
-أنا لم أتوقف من عشر ساعات إلا لكما. لا تحملاني تداعيات التمهل الطبيعي عند كل مطب.
-الأمر ليس بريئا، أنت تعمدت ذلك. أنا لا أدخن منذ انفجرت الحرب.
وبتذكر السجائر والحرب، وأجرة الحافلة، انفجر الموظف المدعو ببكاء مشبوب برغوة مخاطية:
-أنا لست ثريا. لا أمتلك أموالا، ولا سيارات ولا وكالات سفر، لتنصب لي هذه الكمائن. لقد استدنت عشرة آلاف ريال من جارتنا لأتمكن من العودة إلى عملي. والآن كيف لي أن أرد لك الخمسمائة ريال التي اقتطعتها لشراء الدخان؟ هل تقبل بتوفية أجرتك بما تبقى في هذا الصندوق من السجائر؟
داس السائق بهدوء على كوابحه، وسأل الموظف وهو يلتفت بملامح نارية:
-هل تبكي بسبب خمسمائة ريال؟
-لا لا ليس كذلك.. أبكي لأنني مدين لك.
أرخى السائق، من قدمه، وسمح للحافلة لتطوي تحتها الاسفلت الخشن، ثم أدخل يده في جوف معطف رصاصي رث وأخرج ورقة نقدية من فئة ألف ريال، ودسها في جيب قميص المدعو؛ وخاطبه:
-له لعينه أمك. - اللوحة بواسطة نيك هندرسون