- محمد ناجي أحمد
في قصيدته المؤرخة بـ(عام 2000 )يلج الشاعر صادق القاضي من بوابة السؤال الذي يدلف إلى بناء نصه من امتصاص لعناوين دواوين الشاعر عبد الله البردُّوني وفضاءات شعريته، في مساءلة للواقع الذي نعيش مآسيه، الواقع الذي كان حينها ملقّحا بجنين الشتات الذي أُلنا إليه.
وهنا اجتمعت بصيرتان، بصيرة الشاعر في نصه هذا إذا يرى القادم سوداويا، وبصيرة (الكاهن)البردوني ،التي اتخذها حادية له للخروج من تيه الطريق وحرائقه…
” إلى أين يا” كاهن الحرف””؟!
قالوا!”
هو سؤال الفرد في صيغة الجمع ، وسؤال الشعب في صيغة المفرد. سؤال الوطن/الكاهن الجامع لأشلائنا وآمالنا والمطبب لأوجاعنا.
يتوسل الشاعر ” تموز في روح “أيامه الخضر” انبعاث التمني والأمنيات.
فلا البردوني ممن يموت ، شعرا ونثرا، ولا القبر متسع للبلاد…
الموت يبدو كليلا أمام الشاعر الذي لا يموت…
عينا الشاعر ترى الله وتعري المسوخ ولجة الزيف واتساع القبر/ الوجل.
أكمه هو درب الخرائط / هويات القبور، ومنكسر أمام همس البلابل وصدح الشاعر الذي يضيء لنا ” جسد المعجزات” ويشعل الأمل.
كان الشاعر يحكي ويبكي ويجيب ” فريدا بقامة رمح أصيل” يقف حاديا لنا في
بوابة المدينة المحاصرة بـ” أمسيات القبيلة ” وتعويذة الرصاص وتناسل
الجنون.
من هاوية العدم كان التوسل بالشاعر(الكاهن) ، وفي غفلة من
زمان الخضوع والقهر “زمان التشيؤ” زمان اغتراب الذات والجمع كانت أغاني
البردوني للمعجزات والإبحار في فضاء الكرامة…
” إلى أين.. من أين” سؤال الوجود ، بُعْد الوطن في حيويته لا استكانته وانكساره” من أرض بلقيس ” كان الشاعر البردوني حاديا لانقشاع الغبار، وأفول الوجوه الدخانية والمرايا التي لا تستبين سوى الظلم…
الطريق إلى الفجر ” لما يزل مقفرا بالمشاة. و”لما” موعودة بالمجيء الغير بعيد.
يسأل المشتاق للفجر عن نهاية الطريق ، لكن لذة الفجر تبدأ من طريق السؤال
ومكابدة وحشة الطريق المقفر ” في زمن أكمه ناشب في العيون” .
زمن يخشى الحقيقة ، آهل بالدجل، الوطن فيه يأكل أثداءه في المنافي ، والأماني مخصية والبروق مؤدة والصمت يقتل أقمار هذه البلاد…
صارت الأماني هو التعايش مع هذا الواقع المتخم بالموت ، أن تكون بلا رأس ، ورأسك في قدميك ” رأس بغل” أن تصلي لكل هذا الهراء ، والارتحال إلى رخص
هذا الزمان…
فالعروبة التي “زحفت” هادرة من محيطها وثائرة في خليجها أمست سجينة”” وبشرى النبوة” أمست نبيذا لـ”عيد الجلوس” …
الزمان لا يعود والجلوس غير الجلوس، إنه زمن لجلوس الطوائف على جثة الوطن المستباح بأوهام الهويات والأساطير القاتلة!
ومن جرح إلى جرح إلى بئر وصندوق لأم البنين تراودنا بالغواية والمسافات الهباء…
ومن أين .. إلى أين زمان سوف يأتي إلى معتقل.
ومازلنا في حفرة البئر نهوي ، وأوجه المجرمين لا تستحي من الله ،ووجه الإله في غربة ، والسؤال :من أين ..إلى أين؟ ليس سوى فسحة للتعايش وتعميد آلامنا بالشلل،والـ “صلح مع الريح” ليس صلحا إنه تشيء وأفيون من الحوقلات…
نص الشاعر الدكتور صادق القاضي:
إلى أين يا “كاهن الحرف”؟!
قالوا: ..!
ولكن تموزَ في روح “أيامه الخضر” لا في الإشاعةِ..
يا سيدي “مِروداً صار سيف المنايا”، فلا أنت ممن يموت، ولا القبر متسعٌ
للبلاد، هو الموت يستمرئ العابرين، ويبدو كليلاً أمام البطلْ.
..
“تروغ المصابيحُ” لكنها لا تموتُ، وعيناك بعدهما من يرى الله حقاً، ومن ذا
يصلي لوجه الحقيقةِ، في لجّة الزيفِ، أو من يعرّي المسوخَ ، ولا شيء إلا
الوجَلْ.؟!!
..
أكْمهاً كان دربُ التكون من قبل عينيكَ، منكسراً
كان همس البلابلِ حتى صدحتَ، ولقنتنا مفردات التغلغل في جسد المعجزات،
وأشعلت في ليلنا المستطير الأملْ..
..
“كنت تحكي .. تبكي..
تجيب.. تنادي ..” وكانت تشكّلنا” أمسيات القبيلةِ”.. كُنا نعوذ أبناءنا
بالرصاصِ من الاحتلام بباب المدينة.. كنا عيوناً تشرّبت الانقضاض.. شفاهاً
تناسل منها الجنون ُ..بطول الغباء وعرض الخَبلْ ..
..
ومن حيث لا
شيء إلا التهاوي أتيتَ.. فريداً بقامة رمحٍ أصيلٍ.. وفي غفلةٍ عن زمان
التشيؤ غنيت للمعجزات.. وأبحرت ضد انجراف الكرامةِ في وطنٍ مبتذلْ ..
..
“إلى أين.. من أين”..؟! لا بُعد للوطن المستكين، و” لا نوع للزمن”
الانكسار.. و”من أرض بلقيس” يا “حادي الريح” “عرس الغبار”.. فحدّث “صديقا
إلى قبره” عن “وجوه دخانيةٍ في مرايا الظلام” وعن وطنٍ لم يزل.. لم يزلْ
..
..
“الطريق إلى الفجر” لمّا يزل مُقفرا بالمُشاةِ، ومن ذا الذي
يعبد الضوء في زمنٍ أكمهٍ ناشب في العيون، يهاب اقتراف الوجود، ويخشى
اجتراح الرحيل إلى عالمِ آهلٍ بالحقيقةِ .. من غربةٍ في حلوق الدّجَل..!
…
..
ويا سيدي هذه “أم بلقيس” تأكل أثدائها في المنافي، وتقتل
أقمارها في البلادِ، “لها “يا “صديق الرياح” “اعتيادان”: خصيُ الأماني،
ووأد البروقِ.. ِ
أنصمت عن “حلوة الأمس”. والصمت مرٌ..!؟ أنهتفُ.. !!
ماذا تقول الشحارير في غابة من أسلْ!؟
..
تمنيت لو كان لي “رأس بغلٍ” لكي لا أفكر في ردة الثائرين، وفي ناقةٍ
عقرتها الرعاةُ.. تمنيت لو بُدّلت فيَّ كل المعايير حتّى أصلي لهذا
الهُراءِ الرخيصِ “كرأسٍ إلى قدميه ارتحل”؟!
..
“زحف العروبةٍ”
أمسى سجين “الحريق السجين” و “بُشرى النبوةِ” أمست نبيذا لــ “عيد الجلوسِ
“.. ومن جرحنا نحو جرحٍ جديدٍ.. “بصندوق وضاح” مُتنا.. وأم البنين تراودنا كل يومٍ.. وفي كل يومٍ يفاجئنا البئر قبل العسل..!
..
“مصطفى” لم
يزل مُبعداً، والمآسي لها أن تلوك “القميصَ المُنتّفَ”، أن تزدري كلّ ما في كتاب القلوب ِ.. المسافات موقوفةٌ للهباء.. فمن أين يأتي الزمان الذي سوف يأتي إلى مُعتقل.!؟
..
ومازال فينا الكثير ..الكثير.. لننكر
أكذوبة الله في أوجه المجرمينَ، ونعقد صلحاً مع الريحِ.. في عالمٍ موغلٍ
بالتعلّلِ.. مُستَنفرٍ في مدى الحوقلات.. يُعمّد آلامهُ بالشللْ..!
..
صادق القاضي..2000م.