- د. قائد غيلان
أما قبل، هذا هو الديوان الرابع للشاعرة سميرة طويل، وهي شاعرة عربية مغربية مهاجرة، ومسألة الهجرة هذه مسألة مهمة، لهذا أشرت إليها رغم أني لا أحب التطرق للقضايا الشخصية لمن أتناولهم من الأدباء. لقد ترك لنا المهاجرون الأوائل ميراثا كبيرا ومهمّا ضمن مدرسة أدبية من أهم المدارس الأدبية، هي الرومانسية، الذي كان من أبرزهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي.
إن الأديب المهاجر يحمل معه تاريخا أدبيا كبيرا، كما يستفيد من البيئة الجديدة في المهجر. ولعل النتاج الشعري للشاعرة سميرة طويل يستقي ماءه من معين الرومانسية العربية بما يحفل به من احتفاء بالحب والجمال، وما يعبر عنه من غربة الذات وعذاباتها وآلامها وهمومها. لقد عبَرت الشاعرة تجربة أدبية طويلة سكبتها في ثلاثة دواوين، ووصلت إلى ديوانها الرابع بتجربة جميلة مع القصيدة العمودية، فضبطتها جيدا، وأتقنت التعامل معها بثقة وود. لقد سكبت في هذا الديوان تجربتها مع الشعر والحياة بوضوح مع الذات وإخلاص مع اللغة وصدق مع المتلقي؛ فقد تجدها تصف حالة يأس عابرة: لا زاد لي إلا السراب يحيطني وأنا على درب الفيافي أذبلُ ثم تنهظ في انبعاث أسطوري يقاوم الإحباطات، وهي بالمناسبة شاعرة قوية تعتز بذاتها كثيرا: مازلتَ تحجبني وتطمس سيرتي وأنا أمدّ إلى المجرّة كوكبي أعود بكم إلى موضوع الرومانسية وأضع بين أيديكم هذه القصيدة المشحونة برومانسية شجية، تتحدث فيها عن الزمن وتوجّه خطابها إلى المتلقي:
الدهر يوصد دوني الأبوابا
ويحيط قلبي لوعة وعذابا
إن جئت أطلب منه كأسا عذبة
ملأ الكؤوس مواجعا وسرابا
ذبلت حروفي في السطور وأجدبت
روحي ولم أر في السماء سحابا
محروقةَ الأحشاء صرتُ وكان لي
أملٌ يكفكف مدمعيّ فخابا
فغدوتُ ملقاةً على جمر الأسى
والحزن يغرس في الضلوع حرابا
صدقتُ طيفا ذات ليل زارني
فسألتهُ وصلا فبشّ وغابا
مرت عقود والحياة كئيبة
وأنا أمنّي النفس علّ جوابا..
يا وقتُ ما ذنبُ الغريبةِ تحتسي
نارا وترقبُ وعدك الكذابا
تحضر الذات الشاعرة بقوّة عبر ضمائر المتكلمة في مواجهة حزينة مع الوقت، حتى تصل إلى البيت الأخير فتزيح نفسها إلى صيغة الغائب مع صفة ذات دلالة قوية وهي " الغريبة". والغريبة صفة للذات الشاعرة داخل النص، لكن الذات المتكلمة انقسمت إلى ذاتين؛ ذات متكلمة حاضرة، وذات غائبة هي الغريبة، وكأن غربة الذات في هذه القصيدة صيغة ملازمة لكل من تعيش تلك الوضعية، وما الشاعرة إلا متحدثة بلسانهن.
كما إن للغزل في هذا الديوان مساحة كبيرة، فالإنسان الرومانسي يعبر عن ذاته من خلال اندماجها في الآخر أو معاناتها في عدم التوافق معه. أضع هنا جزءا كبيرا من هذه القصيدة نموذجا لهذا النوع من القصائد:
تعال إلي واسبح في عيوني
وقل لي مثلما تشتاق كوني
بلا قسم تعال فأنت معنى
وجودي أنت فاكهة السنين
تضاريسي إلى كفيك تهفو
وتاريخي المسافر في المتون
وعفوا إن قسوت فأنت برئي
من الأشواق والوجع الدفين
تعال إلي في ثغري كؤوس
لذيذات وسكرها حنيني
وخذ ما شئت من ثمري ورفرف
على صدري لأولد من غصوني
تُقدِّم القصيدة بوحاً رومانسياً جميلا، يبدأ بمناجاة الآخر " تعال إلي" معزَّزا بالصورة الجميلة "واسبح في عيوني" ثم تتوالى الصور الجميلة عبر بث عدد من المفردات التي يطبع انتشارها في أي نص سماتِه الرومانسية، من تلك المفردات:" تشتاق، فاكهة، تضاريسي، الأشواق، الوجع، ثغري، كؤوس، حنيني، ثمري، رفرف، غصوني". والبيت الأخير واحد من أجمل الأبيات الشعرية، إذ يصبح المعشوق عصفورا، والعاشقة شجرة مثمرة يتوالد الحب والجمال من بين غصونها:
وخذ ما شئت من ثمري ورفرف
على صدري لأولد من غصوني
أهنئ الشاعرة القديرة بهذا الإنجاز، وأتمنى لها التوفيق في كل أعمالها، وأدعوكم إلى قراءة الديوان متمنيا لكم قراءة ممتعة ..