- زين العابدين الضبيبي
ربما لم يحفظ العرب من حقوق المبدع إلا العبارة الشهيرة: “المعاناة تولد الإبداع” فصاروا يتفننون في خلق معاناة المبدع الحقيقي بالتجويع والسجن والتشريد والتجاهل فيموت الإبداع بالمعاناة ويتصدر المتبدعون لا المبدعون..
فالمبدع خلاقٌ عظيمٌ يحتاج إلى حياة كريمة تساعده على خلق أفكاره وتبعده عن قلق الحياة وهمومها ومستلزمات عيشها ولا أعني هنا الرفاهية المطلقة بقدر ما أعني حالة الاستقرار في حدودها الدنيا.
ومما لا شك فيه أن العبارة المأثورة الظالمة في حال التلقي والفهم السطحي لمعناها، والتي تقول “المعاناة تُوِّلدُ الإبداع” قد تحولت إلى عنوان كبير لمعاناة أجيال كثيرة من المبدعين لا يحصولون على غيرها عزاء في قيض حياتهم المستمر وكأنها جزء منهم أو هم جزء منها.
وأكاد أجزم أن من اخترع هذه العبارة هو حاكم أو سياسيٌ لئيم وبخيل لسعته سياط الهجاء فجعل من هذه العبارة الشنيعة سوط يجلد به المبدعين وتنغص بها حياتهم وتعاطى معها عامة الناس وجعلوا منها حقيقة مطلقة لا تقبل الشك .
هذه العبارة الظالمة والفهم السطحي لها ولمعنى المعاناة كانت سبباً في إهدار طاقات هائلة من الإبداع وصل حد الاستمتاع بتعذيب المبدعين والتلذذ بمعاناتهم لخلق الإبداع المزعوم.
ولعل المعاناة الحقيقية التي تخلق الإبداع هي تلك التي تتسرب لإحساس المبدع من خلال الواقع الذي يراه لا الذي يعيشه هو،
فمن يعيش في وسط الجحيم لا يمكن أن يجد الفرصة للحديث عنها وهو يتقلب على جمرها فصراخه وآهاته سيقفان دون البوح بكلماته والتفنن في شرح معاناته.
لكن من يشاهد تلك المعاناة هو القادر على نقل الصورة ورسمها والتعبير عنها لأنها ستصبح مصدر خوف يطارده في أحلامه فيتقيه بالكلمات ويخوف الناس منه.
وبالمقابل سيسعى المبدع وهو في فسحة من همومه إلى التحليق في فضاءات التأمل والاصغاء للذات والحياة وما يكتنفها من أسرار للكشف عن خباياها التي لا ترى إلا بعيون ومشاعر مبدعة وذات حساسية عالية ترى ما خلف الصور والحركات الظاهرة من معان مستترة قابلة للتفسير والتأويل.
وبالعودة إلى عنوان هذا المقال فإن المعاناة حين تصبح هي القدر الذي يتعايش معه المبدع فإنها تتحول إلى حجاب يصده عن التفكير وتجعل من إبداعه مجرد صرخات احتضار وآهات عذاب تعزز الوجع وتضيق مساحات الأمل وتصبح سلاح تحريض حاد يجرح كل من ساهم في تعزيزها بقصد أو بدون قصد .
ولعلي أستذكر هنا كيف انتقم الشاعر من الحكام والساسة اللؤماء الذين كرسوا هذه المقولة وطبقوها على مبدعي أوطانهم تلك الصرخة التي أطلقها المبدع حين فقد قدرته على الحياة الكريمة فصرخ صرخته المزلزلة التي أسقطت عروشهم.
وإن كانت قد وصلت متأخرة نظراً لرحيل صاحبها المبكر ولعدم توفر وسائل الانتشار المتوفرة اليوم بما يجعل مثيلاتها اسرع انتشاراً ومفعولاً
وقد يتسائل البعض عن ماهية هذه الصرخة التي أسهبت في الحديث عنها دون أن اختصر بها الكلام.
وقبل أن أذكرها لا شك أنها قد تبادرت إلى أذهان البعض منكم وهو يقرأ الأسطر السابقة فقد كانت هذه الصرخة هي العنوان الأبرز لما يعرف بالربيع العربي.
إنها صرخة أبو القاسم الشابي الشهيرة:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدرْ
ولا بد للظلم أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر.
وأي ظلم أبشع من ظلم المبدع وخنقه بالمعاناة وفرض قيودها عليه وعلى حرية خياله التي يفقدها كلما أصبحت المعاناة حبل مشنقة ملفوف حول عنقه يخنقه كل يوم.
ولا سبيل له في التخلص من هذه المعاناة الخانقة التي يعتقد البعض أنها ضرورة ملحة في حياة المبدع إلا بوضعها في عنق غيره كما فعل الشابي أو بتحالفه مع من يتلذذون بمعاناة الشعوب ليعيش هو بدافع الانتقام من المجتمع وهو احتمال ضعيف كون المبدع الحقيقي مبدئي الموقف منحاز للشعب ولمعاناته لكنه ممكن الحدوث.
إذن فالمبدع إنسان ذو حساسية عالية يعاني مثل الجميع وأكثر ويمكن أن ينهار ويفارق جفنيه النوم لأيام لمجرد مرور لقطة مفزعة فيها قدر من المعاناة أمام عينيه سواء في التلفاز أو في الواقع وهذا ما يثبته سرعة تفاعل واستجابة المبدع مع كل القضايا الإنسانية في كل مكان.
وهنا لابد أن نعود لمناقشة العبارة مرة أخرى فالمعاناة تكون معاناة روحية لا واقعية كما يظنها الناس حد جعل المعاناة فريضة واجبة على المبدع يتجرعها وحده ويعيش بها وتحت سياطها فيعتقدون أن إخراجه منها خطر عليه، بينما الحقيقة أن بقاء المبدع رهين المعاناة هو الخطر الحقيقي عليه وعلى المجتمع الذي يعيش فيه
حيث يتحول من طاقة تصنع الحياة وتغذي المعرفة وتبث الأمل إلى آلة تذمر وكآبة ويأس تقتله وتقتل من يقرأه وهو ما أثبتته الأيام فكل المبدعين الكبار عاشوا حياة كريمة ولم يشعروا بالذل والعوز الذي يفرض على كل مبدع اليوم .
وبعد كل ما أسلفت سأعود إليكم بالسؤال هل المعاناة أداة خلق أم خنق؟
…..