- محمد ناجي أحمد
عندما أرجع بذاكرتي إلى الصف الخامس والسادس والأول الإعدادي(السابع) استعيد رغبتي بتأليف كتاب بعنوان (ناصرية الإسلام) وكنت في تلك السن من الطفولة قد كتبت العديد من الصفحات بما يصل إلى حيز دفتر …
هل الوعي التوفيقي مرتبط بطفولة عمرية ؟ تجد الحل برومانسية ووجدان جامع بين الإسلام الحركي واليسار العلماني؟
هناك علمانية ملحدة ، وعلمانية متدينة، ويبدو أن هذا التوفيق منذ طفولتي المتوسطة والمتأخرة هو ما جعلني علمانيا متدينا ، أو كما يرى البعض أتجه نحو “تلفيق جامع لله وماركس وجمال عبد الناصر”.
باعتقادي أن التوفيقية بقدر ما هي حالة طفولية ، وتوجه وجداني في الجمع بين المتناقضات ، وجعلها في تساكن وتعايش لا احتراب – له دواعيه الموضوعية ، سواء بالوقائع أو الأذهان…
الأنساق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في اليمن تجعل الثقافة مرآة لها، ولهذا لا تحدث تغييرا فيها ، وإنما تخادم…
واقع الأحزاب اليسارية ليس مغايرا ولا متجاوزا لطبيعة الوقائع والأذهان، بل منسجما ومستسلما لها ؛ أي أن القدرة على التغيير لهذا الواقع ليس سوى ادعاء .
نجد الرفيق /الشيخ يستقطب مزارعيه ، وينظمهم بخلايا ومستويات حزبيه ، لكن العلاقة بين الرفيق الشيخ والأجير بالفلاحة ، هي ذاتها لم تتغير، باستثناء أن الفلاح الأجير صار (الرفيق الأجير)!
يردد اليساريون مصطلح النقد والنقد الذاتي ، لكننا عند فحصه في واقع الممارسة ، نراه لدى القوميين مجرد عبارة جوفاء ، لا تنصرف لنقد جوهر العلاقات الاجتماعية والتنظيمية !
يتحول المصطلح إلى فقرة يجب البدء بها في لقاءات المستوى التنظيمي ،فقرة في لقاء حزبي ، لا علاقة لها بنقد ممارسة ووعي العضو الحزبي داخل المجتمع ، ولا بنقد حالة الاستلاب ، وانسياق القطيع لقياداته الحزبية ولأنساقه الاجتماعية…
كما سنجدها لدى الماركسي ، فوضى دائخة لا تستبين ما تريد ، ولا تحدث مغايرة أو معارضة لطبيعة العلاقات الاجتماعية ، في الأسرة ، في المعيشة ، في الإنتاج ، في الميراث، في تراتبية المجتمع ، اقتصادا وسياسة وفكرا!
سنجد اليساري يمارس كل حيل الاستغلال على مستوى الورث ، أو العيش على حساب عرق (شركائه) في الأرض ، ولا يقبل أن يعيد التفكير ولو بطريقة الاشتراكيين الفابيين بعلاقته بالمستأجرين للأرض ، أو بالتفكير بإعادة صياغة لطبيعة وجوهر هذه (الشراكة) المستغَلَّة!
في طفولتي ارتسمت صورة الرئيس إبراهيم الحمدي في ذاكرتي بوهج وحركة المدينة ، شبابيا وتجاريا ، وتعاونيا ، وأعيادا للعمال والشجرة !
لهذا حين تم اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي كان أكثر الناس حزنا وفقدا هي المدن وسكانها ، والريفيين الذين غادرت من أرواحهم وعلائقهم -نسبيا- البداوة !
ما الذي كان عليه إبراهيم الحمدي طيلة الستينيات عند احتدام الصراع في أحداث مارس وأغسطس ، وماهي أفعاله ومواقفه تجاه المقاومين الثوريين في 1969-1972م ؟
الناس لا يقفون عند هذه التساؤلات ، ومن لديه إجابات تظل مرويات دون معالم ، ودون إثبات لجرم مشهود ، ودون وقوف جاد في البحث عن أفعال المقاومين الثوريين ومنظمة الفلاحين وعنفهم ، بمعنى المنظور الكلي للصراع يظل غائبا ، ونستمر في مشاهدته من أحادية مضللة ، ومؤدلجة حاجبة لأي مقاربة وتصور للحقيقة…
في الثمانينات كان الفضاء الاجتماعي بأدوات ووسائل المؤسسات التعليمية والشبابية الخ مفتوحا رسميا وعنوة لحركة الإخوان المسلمين . ضُرِبَ اليسار بمطرقة أجهزة القمع على رأسه ، لم يتح له فرصة لإنجاز فكري يزحزح الأزمنة الثقافية الماضوية ،ولا هو سعى بمراجعاته نحو ذلك –من أجل التفكير في خطابه ، ومدى ارتباطه بالواقع اليومي .لهذا كان الواقع اليومي مختطفا في الولوج إليه لتوجه مَثَّل صولجان نظام (رؤوس الثعابين). في الإذاعة المدرسية ، في النادي الرياضي، في الحارة وعقالها ، في القضاء ، في الأمن ، في الجيش ومحاضراته وشروط القبول فيه ، في الجامعة ، الخ الخ.
هل فكر الإخوان المسلمون أن ينتقدوا مسار حركتهم طيلة العقود الماضية ؟
موقفهم من الأغنية ، والموسيقى ، والفن التشكيلي ، والانشطة الشبابية لطالبات وطلاب المدارس والجامعة ، والحفلات العامة ، والسينمان، الخ ؟
ليس هناك مراجعات وإنما مغالطات بأثر رجعي ، كأن تجد بعضهم يتحدث عن استماعه وإعجابه بفيروز وأيوب ، وأم كلثوم ، وبعض رقصات مع “القواعد من النساء”! وفيلم من هنا وهناك الخ. لكن ذلك يدخل في باب المغالطات والنظر إلى تاريخ رجعي بأثر رجعي !
هل فكروا في إنجاز عدالة انتقالية على مستوى الاعتراف والبوح بما ارتكبوه من جرائم في المناطق الوسطى، من قتل وإخفاء قسري ، وتشريد وتفكيك للأسر الخ؟ ولو بموازاة حديثهم عن مواقف وسلوك خصومهم؟
لا شيء من ذلك ، وأعتقد أن كل الحركة السياسية في اليمن تنظر إلى فكرة المراجعات لتاريخها ووقائعها ، على أنها ستتخذ سلاحا للنيل منها . والحقيقة أن اليسار واليمين يرى في الذاكرة وبوحها عدوا مقلقا يجب شطبه بممحاة النسيان!
استحضر من ذاكرتي الضجيج الخطابي لشوقي القاضي في تقديمه لفعاليات “سَمَر” (نادي الأحرار_ في النصف الأول من الثمانينات بمدينة تعز، سواء في موقفه من الفن أو اليسار ، وهي مواقف رجعية وعُنْفيَّة كجزء من نسق حركة الإخوان حينها، وكيف أصبح في أيامنا يُحدثنا بوعظيات منشوراته عن تنويره وتنوره!
ولعلَّ غياب المكاشفات والمراجعات النقدية هي ما تجعلنا نعيد إنتاج عنفنا كتصور وممارسة في لغة الكلام ولغة البندقية!