- كتب: خلدون العامري
مقدمة:
قرأت فيض الحزن المتجسد في تفاصيل القصة، فهربت كعادتي حين أعجز عن مواجهة الواقع بحقيقته المُرة.. إلا أن تخصصي العملي في مجال مكافحة الأوبئة، المبني على الإصحاح البيئي وديمومة سلامة البيئة من خلال نشر وتبني المفاهيم التوعوية حتم عليّ قراءة النص والتمعن في تفاصيله استنادا للمعايير البيئية لعلي ألحظ شيء مغاير يتوسد عقلية القارئ، فالأدب الوبائي مبني على الإلمام المعرفي بالمفاهيم المتعددة التي تداخلت معه ك (التاريخ، وعلم النفس، والفلسفة، والقيم الأخلاقية، وعلم البيئة، والطب المجتمعي).
القاصة نجلاء كثيرًا ما تجعل مني فريسة لقصصها كأني بها تهدم آخر حصون مقاومتي، تستدعيني من آخر الأعماق لاستحضار ماضٍ ملكناه؛ ماضٍ خالٍ من الجوائح العارضة وبعيدًا عن المخاطر المتعمدة ثم تجبرنا لمواجهة الحاضر الذي تملكنا بحزن مرهق وجرعنا المر الناقع،-وكشعب- دلفنا قسرا إلى هذا الواقع الذي عاث فينا فسادًا، وانجرفنا طوعًا من خلال الاستهتار بالوباء والتقليل من الخطورة وحين اكتوينا بالحزن عجزنا أن نختار بابًا صالحًا للنجاة ..ما فتئت القاصة أن فتحت أعيننا استعدادًا لغد لا نملكه ولا ندريه ونخاف أن يملكنا ..
أولًا: النّص. “للموتِ وجهٌ آخرٌ”
بقلم: نجلاء القصيص.
وجهُ القريةِ عابسٌ، نباحُ الكلابِ يصدحُ في الوداي، صريرُ الريحِ يقرعُ الأبوابَ المؤصدةِ بقوةٍ، الطرقاتُ خاليةٌ من المارّةِ.
تنقشعُ كتلةُ الليلِ الحالكةُ شيئًا فشيئًا، الشمسُ الخجلةُ تلتهمُ بقايا ليلٍ موحشٍ يلملمُ أوراقَهُ ويمضى.
القريةُ ترتمي في حضنِ الجبلِ، أهلها للتوِّ استيقظوا، الأدخنةُ تتصاعدُ من أسطحِ المنازلِ، الأمهاتُ يجهّزنَ الطعامَ، الشيوخُ يحتضنونَ مصاحفَهُم في الزّوايا المختلفةِ يرتلونَ آياتٍ من القرآنِ الكريمِ ويدعونَ اللَّهَ أنْ تنقشعَ الغمةُ التي ألمّتْ بقريتِهم دونَ سابقِ إنذارٍ.
صوتُ تكبيراتِ العيدِ يصدحُ من مآذنِ المساجدِ، الآباءُ يرفعونَ أيديَهُم نحوَ السماءِ طلبًا منَ اللَّهِ الرحمةَ وانفراجَ الأزمةِ.
تخرجُ من منزلِها دونَ غطاءٍ للوجهِ، حافيةَ القدمينِ. دموعُها تنزلُ بغزارةٍ فوقَ خدِّها، تصرخُ بأعلى صوتِها الذي امتزجَ مع صوتِ التكبيرِ:
ابنتي تختنقُ، من يأخذُها لأقرب مركزٍ صحيّ؟!
يتجمعُ رجالُ القريةِ حولَها للاستفسارِ عن الأمرِ، بينما الأمهاتُ يُحاوِلنَ زرعَ السكينةَ في نفوسِ صغارِهنّ الخائفينَ..وأنّ ما يحدثُ لنْ يتكرَّرَ.
يقتربُ منها رجلٌ أربعينيّ قائلًا:
عُودي إلى منزلِكِ، لا توجدُ أسطوناتُ أكسجين في المرفقِ الصِّحِّيّ، والمستشفيات لمْ تعُدْ قادرةً على استقبالِ المرضى.
تعيدُ عليهِم كلماتَها:
ابنتي تموتُ، ساعدوني!
بقلوبٍ داميةٍ وعاجزةٍ يطلبونَ منها العودةَ فلا فائدةَ من نقلِها طالما حالتها وصلتْ إلى مرحلةٍ متأخرةٍ ولا أجهزةُ تساعدُها على الحياةِ.
يقولُ أحدُهم:
ليسَ بوسعِنا فعلُ شيءٍ لكِ، أرواحُنا مهددةٌ بالخطرِ إنْ اقتربْنا منها ستنقلُ لنا العدوى!
تلملمُ بقاياها الذابلةَ ولكن لا تستطيعُ التحركَ، تُعاوِدُ الصراخَ فيهِم:
“أنتُمْ لا تشعرونَ بي فأولادُكم لم يصابوا كونَهم في الحَجْرِ؛ أما ابنتي فكانتْ تذهبُ للعملِ في المركزِ الصّحّيّ؛ لتعودَ لنا ببعضِ الريالاتِ التي تمكّنُنا من امتلاكِ كسرةَ خبزٍ باتَ من الصعبِ الحصولَ عليها في زمنِ كُورونا”.
الشمسُ لا تزالُ تقبّلُ الوجوهَ السمراءَ التي تشبهُ التماثيلَ الفرعونيةِ الجامدةَ فوقَ الأسطحِ وداخلَ النوافذ المتراميةِ الأطراف، تخرجُ للبحثِ عنْ سيارةٍ توصلُها إلى المركزِ الصّحّيّ، غيرَ مباليةٍ بتعليماتِ السلامةِ الاحتزاريةِ التي أخبرَهُم بها فريقُ التوعيةِ. تخلّى عنها الأهالي في لحظاتٍ صعبةٍ ولكنّها لن تتخلّى عنِ ابنتَها. تأخذُ بالبحثِ في مشارفِ القريةِ عن وسيلةِ نقلٍ دونَ فائدةٍ، فالحركةُ ماتَتْ منذُ تسلَّلَ الوباءُ والتصقَ بالنّاسِ على حينِ غفلةٍ منهم.
تركضُ باتّجاهِ الطريقِ العامِّ الفارغِ إلا من بعضِ الكلابِ الهزيلةِ التي أخمدَ صوتَها الجوعُ. وعورةُ الطريقِ أثناءَ الركضِ جعلَها تتعثّر أكثرَ منْ مرةٍ، الأحجارُ الصغيرةُ وأشواكُ الأشجارِ على جانبي الطريقِ تصيبُ قدميْها الحافيتينِ وتدميهما. تسقطُ أرضًا ولكنّها لا تيأسُ، تنتزعُ ما علقَ بقدمِيها من شوكٍ وتعاوِدُ السيرَ مرةً أخرى. تستنفرُ قوتَها المخزونةَ؛ حباتُ العرقِ تتساقطُ منها لتبلِّلَ جسدَها النحيلُ بالكاملِ فهي في معركةٍ ضاريةٍ قدْ تنتهى بهزيمتِها في أية لحظةٍ.
لا تزالُ الشمسُ ترسلُ سياطَ أشعتِها الحارّةِ لتجلدَ رأسَها المملوء بالخوفِ والأملِ معًا، أنفاسها تكادُ تُقطعُ منْ كثرةِ الركضِ.
تسألُ نفسَها:
هل تستطيعُ التحملَ حتى أعودَ لها بالإسعافِ؟
هل ستنجو من فتكِ الوباء؟
تجمعُ أنفاسَها المنهكةَ وتصرخُ بصوتٍ، لا يكادُ يسمعُ: أرجوكِ يا صغيرتي تماسكي حتى أعودَ!.
يستوقفُها رجالُ الأمنِ:
ألا تعلمينَ أنَّ الخروجَ ممنوعٌ في العيدِ، فالحظرُ شاملٌ ويجبُ الالتزامَ؟!
أحدُهم يوجّهُ بندقيَّتَهُ نحوَها:
عُودي إلى المنزلِ يا امرأة.
تتجاهلُهُ وكأنّما لمْ تسمعْ ما يقولُ، إنّها تموتُ الآن، لا بدّ من إحضارِ الإسعافَ أو أسطوانةَ تنفسٍ، فحياتُها مرهونةٌ بذلكَ.
تزمجرُ كأنثى أسدٍ تَعرّضَ صغارُها للخطرِ:
ألا تفهمونَ؟!
يتقرَّبُ منها ضابطٌ:
الخطرُ هناكَ أكبرُ فالمرضى بالمئاتِ والإمكانياتُ شحيحةٌ ستنتقلُ لكِ العدوى لا محالة، فأنتِ لمْ تستخدمي طرقَ الوقايةِ، الموتُ في انتظاركِ، فكّري بأولادكِ سيصبحونَ دونَ أمّ.
لم تستمعْ لهُم فعاطفةُ قلبها صمَّتْ أذنَها. تتجاوزُهم باتّجاهِ هدفِها، أخيرًا وصلتْ، تبحثُ في الممراتِ المكتظةِ بالأسرّة والجثثِ المبعثرةِ، تدقُّ على أبوابِ الغرفِ ولا يجيبُها أحدٌ. تتعثّرُ قدمَها بـسيرونٍ معلقٍ إلى الجدارِ، تسقطُ فيرتطمُ رأسَها بالأرضيةِ، تقاومُ بما تبقّى لها مِنْ قوةٍ، تحاولُ النهوضَ، سيلُ الدمِ يتدفَّقُ مِنْ رأسِها، تشعرُ بدوارٍ شديدٍ، تغمضُ عينيها.
تبدأُ الجائحةُ بالانحصارِ، تنقشعُ الغمةُ التي لحقتْ بالنّاسِ منذُ أشهرٍ، تخلو الأسرّةُ منَ المرضى، تقفُ الفتاةُ بجسدِها النحيل تنظرُ إلى امرأةٍ ملقيةً فوقَ سريرٍ دونَ حركةٍ والأجهزةُ موصولةٌ إلى صدرِها…
ثانيًا: القراءة.
“للموتِ وجهٌ آخرٌ”
نص عظيم جدًّا له نهج وأسلوب العمالقة.
ثقة كبيرة ظهرت في السرد الخالي من التكلف، والبعيد عن الضعف..
بغض النظر عن الشيء اليسير من القصور في توظيف وتركيب الجمل والمفردات المناسبة للغرض المناسب ..
- مدخل القصة: كان المدخل تقليديًّا، فقد أوردت القاصة وصفًا تصويريًّا محكمًا للمكان والزمان والمناخ والأشخاص مجسدةً اللحظات الأولى بمشاهد حية، هذا المدخل شكل علاقة وثيقة مع مجريات القصة..
- المحيط:
تخلي المجتمع الوصف الأبرز للمحيط.
استطاعت القاصة أن ترسم الوضع المأساوي للمواطن اليمني عموما وللأرملة خصوصا.. مجسدة العناء المضاعف للبطلة حيث لم تحصل على أي مساعدة من الجيران أو ممن صادفتهم في طريقها وحين وصولها المشفى.
كانت المرأة تعاني وحيدة
فتضاعف العناء على الفتاة مؤخرا..
- البنية السردية:
لجأت القاصة إلى الإمساك بزمام النسق والتحكم به بصوت أحاديّ منذ فجر القصة، وحتى قبل الخاتمة؛ ثم تختتم القصة بصوت جديد، صوت مغاير جملة وتفصيلا، مثّل احترافية فريدة..
خالقة عصفًا ذهنيًّا عظيمًا،
مطلقةً العنان لخيالِ القارئ بالمشاركة في نسج جانب واسع من أحداث القصة ..
بالرغم من التراجيديا البالغة ، بما تحمل من بؤسًا وألمًا بالغَين؛ إلا إنها تحاكي الواقع بمنهجية متقنة آخذة حقها من البعد والخيال..
سردية مكثفة تميزت بالاختزال في تأدية الغرض وهذا تحديدا ما برعت فيه القاصة نجلاء القصيص ..
وهنا يكمن التميز والصعوبة والمشقة؛ فالاختزال فن جميل وصعب وشاق.
مشاهد قصصية ذات تداعيات رائعة، انسلت منها حبكة قوية.
ناقشت الكثير من القضايا (البيئية، والإجتماعية، والسياسية).
لخصت الكثير من المزايا أبرزها الرسائل التوعوية العلمية الإحترازية والوقائية التي حملتها تفاصيل القصة ومررتها كمُسَـلّمات راسخة في الأذهان وهي:
- الحجر المنزلي ك إجراء احترازي
- “أنتُمْ لا تشعرونَ بي فأولادُكم لم يصابوا كونَهم في الحَجْرِ؛”.
- التباعد الإجتماعي واعتزال المناسبات حتى وان كانت من الشعائر الدينية:
“صوتُ تكبيراتِ العيدِ يصدحُ من مآذنِ المساجدِ.”
“الطرقاتُ خاليةٌ من المارّةِ”.
دلالة ضمنية على أن الأهالي وعلى غير العادة لم يخرجوا لتأدية صلاة العيد حتى لا يصابوا بالعدوى.
- عدم مخالطة المصاب أو الاقتراب منه:
“يقولُ أحدُهم: ليسَ بوسعِنا فعلُ شيءٍ لكِ، أرواحُنا مهددةٌ بالخطرِ إنْ اقتربْنا منها ستنقلُ لنا العدوى!” - كلما ازداد عدد المصابين ازدادت فرص العدوى:
“يتقرَّبُ منها ضابطٌ: الخطرُ هناكَ أكبرُ فالمرضى بالمئاتِ والإمكانياتُ شحيحةٌ ستنتقلُ لكَ العدوى لا محالةَ،” - في حال ان الاختلاط أمر حتمي فيجب العمل بالوسائل التي تمنع العدوى بأخذ الاحتياطات ك اصطحاب المعقمات، لبس الكمامات، وارتداء الملابس العازلة، لبس الكمامات وعزل الوجه والكفين :
“ستنتقلُ لكَ العدوى لا محالةَ، فأنتِ لمْ تستخدمي طرقَ الوقايةِ،.” - اسعاف المصاب مبكرًا قبل أن يصل إلى مرحلة الاختناق:
“لا فائدةَ من نقلِها طالما حالتها وصلتْ إلى مرحلةٍ متأخرةٍ”.
في سابقة فريدة من نوعها على مستوى الأدب العربي المعاصر ككل من خلال:
1- الإلمام العلمي
2- تناول المشكلة المعاصرة (الجائحة التنفسية كورونا) وعرضها بطريقة أدبية قلّما نجدها في الأدب العربي.
3- التطرق لعامة القضايا الجوهرية:
- شحة الخدمات العامة ك الطرقات المعبدة، ووسائل المواصلات، والمستشفيات، والرعاية الإجتماعية، والوقود المنزلي.
- انعدام الإمدادات الطبية.
- غياب الكادر الطبي.
- ضعف الرعاية الصحية
- تضاعف اعداد المصابين
“لا أجهزةُ تساعدُها على الحياةِ.”
“لا توجدُ أسطوناتُ أكسجين في المرفقِ الصِّحِّيّ”
“المستشفيات لمْ تعُدْ قادرةً على استقبالِ المرضى.”
- الفقر، وعمالة الأطفال..:
“أما ابنتي فكانتْ تذهبُ للعملِ في المركزِ الصّحّيّ؛ لتعودَ لنا ببعضِ الريالاتِ”. - سوء التغذية سمة عامة،
- “حباتُ العرقِ تتساقطُ منها لتبلِّلَ جسدَها النحيلُ.”
4- التعسف البالغ والانتهاك الجسيم للحقوق ومصادرة الحرّيات الذي تمارسه الجهات الأمنية في التعامل مع المواطن:
“أحدُهم يوجّهُ بندقيَّتَهُ نحوَها: عُودي إلى المنزلِ يا امرأة.”
5- طرق قضية اجتماعية ذات معايير حساسة لازالت تمجد العادات والأعراف البالية (النقاب كفريضة اجتماعية دخيلة تعيب كل امرأة تقصر فيه) : “تخرجُ من منزلِها دونَ غطاءٍ للوجهِ،”
صحيح بأن هناك قصور لفظي بسيط وخلل انشائي لكنه لم يمس الجوهر العام للقصة ومدلولاتها العظيمة ..
وحتى قصور بسيط لاحظته في أربعة مواطن:
- الأول: خلل في ربط المشاهد رغم أن جاء الإيضاح ضمنيا عبر الإيحاء المبهم خلال الوصف التصويري إلا أنه حصل تداخل مكاني وزماني خصوصا وقد أُغفلت المسافات في السرد وبالتالي حدث اللبس والتضارب في مخيلة القارئ وحصل الخلط مابين مكان القرية ذات طبيعة الحياة البدائية التي ما زالت تستخدم الوقود التقليدي في الحياة اليومية: “الأدخنةُ تتصاعدُ من أسطحِ المنازلِ”، وبين مكان المرفق الصحي ذات المحيط الحضاري بدلالة فرض الحظر الإجباري وانتشار الأمن.
- الأمر الثاني:
- الوصف المغاير للمعنى الظاهر:
- “صريرُ الريحِ يقرعُ الأبوابَ المؤصدةِ بقوةٍ”
- هل المعنى صرير الريح يقرع الأبواب المحكمة الإغلاق ؟؟
- أم صرير الريح يقرع وبقوة الأبواب الموصدة؟
- أيا كان ففي كلا الحالتين التشبيه في غير محله فالرياح لا تؤثر ولا تظهر آثارها على الأجسام الثابتة كالأبواب الموصدة، بينما تظهر على الأجسام غير الثابتة كالأبواب المواربة، والصفيح، وأعواد الذرة الجافة، والأشجار، والثقوب في الأبنية.
- الأمر الثالث:
- استخدام مفردات غير موفقة ولا تخدم المعنى العام لسياق الجمل مثل الكلمات التالية (لاستفسار، انحصار، يتقرَّبُ، وكأنّما):
“يتجمعُ رجالُ القريةِ حولَها لاستفسارِ عن الأمرِ”
إما أن تكون الكلمة هي (للاستفسار) وأظنها كذلك لولا أن سقط حرف اللام سهوًا، أو أن تكون الكلمة لاستفسارها عن الأمر وهذا مستبعد خصوصا أن سبقتها كلمة حولها ..
“تبدأُ الجائحةُ بالانحصارِ، تنقشعُ الغمةُ”
اِنحصار: (اسم) اِنحصار: مصدر اِنْحَصَرَ
انحصر الشَّيءُ/ انحصر الشَّيءُ في كذا: تحدَّد ضمن حدود معيَّنة.
بينما نجد أن الكلمة المناسبة هي انحسار.
اِنْحِسار: مصدر اِنْحَسَرَ
وتعني تراجعٌ تدريجيّ
انكشف، زال وتقلَّص.
” يتقرَّبُ منها ضابطٌ”:
بينما الأنسب اقترب أو يقترب منها ضابط.
“تتجاهلُهُ وكأنّما لمْ تسمعْ ما يقولُ”.
بينما كان الأنسب وكأنّها.
- الأمر الرابع:
ظهور شيء يسير من الحشو في صياغة الجمل فيما لو اختصرت لوصل المفهوم ضمنيا دون الإخلال بالمعنى، مثال على ذلك:
“صوتُ تكبيراتِ العيدِ يصدحُ من مآذنِ المساجدِ، الآباءُ يرفعونَ أيديَهُم نحوَ السماءِ طلبًا منَ اللَّهِ الرحمةَ وانفراجَ الأزمةِ.”
فلو أعدنا صياغة الجملة كالأتي:
المآذن تصدح بتكبيراتِ العيدِ، الآباءُ يرفعونَ أيديَهُم طلبًا للرحمةَ وانفراجَ الأزمةِ.
هل تغير شيء من المعنى؟!
إن كان هذا الحشو غير مذموما في حجمه؛
إلا أنه يؤخذ على قاصة بحجم الأستاذة نجلاء.
ومع ذلك يبقى النص متقدم ومتجاوز يرقى الوصول لمصاف العمالقة ويستحق التخليد
قصة مكتملة العناصر من حيث الزمان، والمكان، والشخوص، والحبكة، والعقدة الصراع، والحدث.
وعند الوقوف على كل عنصر في تأمل مستفيض نجد الأتي:
الزمان، وإن كان مبهما إلا أن له تصاوير جلية ومن خلال السرد أمكن تقسيمه إلى ثلاثة أزمنة متفاوتة:
- الأول: زمن معاصر وهو الصباح الباكر في يوم عيد استشرفت فيه القاصة اللحظة الراهنة بقولها:
“تنقشعُ كتلةُ الليلِ الحالكةُ شيئًا فشيئًا،”
“الشمسُ الخجلةُ تلتهمُ بقايا ليلٍ موحشٍ”
“صوتُ تكبيراتِ العيدِ يصدحُ من مآذنِ المساجدِ”. - الثاني: زمن قبل وما بعد الظهيرة وهو الوقت المستغرق مشيا على الأقدام من القرية حتى بلوغ المركز الصحي.
- “لا تزالُ الشمسُ ترسلُ سياطَ أشعتِها الحارّةِ”. الثالث
- الثالث: زمن لاحق بعد مرور أشهر وهنا تجلت الإحترافية في أنصع صورة فحين انقطع وعي البطلة انقطعت الأحداث ومن قبلها الزمان ثم عاود اللمعان بظهور الفتاة
- “تنقشعُ الغمةُ التى لحقتْ بالنّاسِ منذُ أشهرٍ،”.
المكان، وينقسم إلى ثلاثة:
- الأول: الموطن، قرية جبلية؛ باستدلال الجبل والوادي:
“القريةُ ترتمي في حضنِ الجبلِ”،
“نباحُ الكلابِ يصدحُ في الوداي”. - الثاني: الطريق الرابط بين القرية والمدينة بشقيه العام والفرعي شديد الوعورة:
“تركضُ باتّجاهِ الطريقِ العامِّ الفارغِ إلا من بعضِ الكلابِ الهزيلةِ التي أخمدَ صوتَها الجوعُ.”
“وعورةُ الطريقِ أثناءَ الركضِ جعلَها تتعثّر أكثرَ منْ مرةٍ،”. - الثالث: مدينة قريبة أو تجمع مدني تتوفر فيه الشرطة، والخدمة الصحية والذي فرضت عليه إجراءات الحجر وهذه المعطيات لا تتوفر في القرية التي تخلو من رجال الشرطة وإجراءات تقييد الحركة:
“يستوقفُها رجالُ الأمنِ: ألا تعلمينَ أنَّ الخروجَ ممنوعٌ في العيدِ، فالحظرُ شاملٌ ويجبُ الالتزامَ؟!”. - أخيرا: المرفق الصحي: “أخيرًا وصلتْ، تبحثُ في الممراتِ المكتظةِ بالأسرّة والجثثِ المبعثرةِ، تدقُّ على أبوابِ الغرفِ لا يجيبُها أحدٌ”
الشخوص، أو الشخصيات بقسميها:
أولا الشخصيات الرئيسية وهي:
- الام الملهوفة؛ بطلة القصة:
” تصرخُ بأعلى صوتِها الذي امتزجَ مع صوتِ التكبيرِ:
ابنتي تختنقُ، من يأخذُها لأقرب مركزٍ صحيّ؟”
- الرجل الأربعيني
“يقتربُ منها رجلٌ أربعينيّ قائلًا: عُودي إلى منزلِكِ.” - أحد رجال الشرطة
“أحدُهم يوجّهُ بندقيَّتَهُ نحوَها: عُودي إلى المنزلِ يا امرأة.” - ضابط الشرطة
“يتقرَّبُ منها ضابطٌ: الخطرُ هناكَ أكبرُ، فالمرضى بالمئاتِ والإمكانياتُ شحيحةٌ”. - الفتاة محور القصة وشريك البطولة
“تقفُ الفتاةُ بجسدِها النحيل تنظرُ إلى امرأةٍ ملقيةً فوقَ سريرٍ دونَ حركةٍ والأجهزةُ موصولةٌ إلى صدرِها…”.
ثانيا الشخصيات الثانوية وهي:
- أهالي القرية؛ أمهات وشيوخ، وآباء ورجال، ونساء وأطفال.
“الأمهاتُ يجهّزنَ الطعامَ، الشيوخُ يحتضنونَ مصاحفَهُم”.
“الآباءُ يرفعونَ أيديَهُم نحوَ السماءِ”.
“يتجمعُ رجالُ القريةِ حولَها للاستفسارِ عن الأمرِ، بينما الأمهاتُ يُحاوِلنَ زرعَ السكينةَ في نفوسِ صغارِهنّ الخائفينَ”. - رجال الأمن.
“يستوقفُها رجالُ الأمنِ: ألا تعلمينَ أنَّ الخروجَ ممنوعٌ في العيدِ، فالحظرُ شاملٌ ويجبُ الالتزامَ؟!”. - المصابون في المركز الصحي.
“الممراتِ المكتظةِ بالأسرّة والجثثِ المبعثرةِ،”.
عموما فالنص بشكل عام أكثر من رائع وأروع ما فيه الحوارات المقتضبة والمُركزة، تساوت فيه وسائل العرض بـ (الطرح، والاستفهام، والإيحاء) كل ذلك باختزال مكثف اشتمل عليه.
فيما تجسد الحوار في ثلاثة مواطن هي:
- الأول: حوار مدهش مع أهالي القرية تخللته مقدرة عظيمة في عرض المشكلة وطرح المراد في أقل من سطر: “ابنتي تختنقُ، من يأخذُها لأقرب مركزٍ صحيّ؟!”.
الثاني: حوار استفهامي مع الذات “تسألُ نفسَها: هل تستطيعُ التحملَ حتى أعودَ لها بالإسعافِ؟
هل ستنجو من فتكِ الوباء؟”.
الثالث: الحوار مع رجال الأمن وهنا برع الاختزال والتكثيف باحترافية متقنة “إنّها تموتُ الآن، لا بدّ من إحضارِ الإسعافَ أو أسطوانةَ تنفسٍ، فحياتُها مرهونةٌ بذلكَ”.