- ضياف البراق
(1)
هذه الأيام تبدو الكتابة معي مُنهِكة كالسير في طريق مسدود من كل اتجاه. إنّي أحاول الكتابة ولكنّي لا أستطيعها، راهنًا. أشعر بضجرٍ شديدٍ كأنه يرغمني على عدم الاستجابة لنداء الكتابة. إلّا أنّي أشهو أن أكتب بالضرورة، أو بأيّ حال، هذا مع كوني لا أطيق الكتابة المُفتعَلة من خلال الضغط على اللغة وابتذال معاني الأشياء. أجل، لستُ أطيق العمليات القسرية ولا المكابرة في مجال الكتابة خصوصًا. أمّا عندما يحتلني القلقُ الشديد، فإنّي بلا شك أفشل سريعًا كلما حاولتُ الكتابة عن أي شيء. لعل لغتي بحكم طبيعتها لا تحتمل درجة كبيرة من القلق. غالبًا أعشق الكتابة عن نفسي ولا أكثر. وحين أغوص في الكتابة باتجاه نفسي، أشعر بأنّي ناجح بامتياز على هذه الحياة. أكتبُ عن نفسي، كما يدافع الغلبان الوحيد عن لقمة عيشه في أقسى لحظات الجوع. والكتابة عن هموم النفس، أو عن آلامها العميقة، ليست سهلة أبدًا، ولكنها رحلة ممتعة جدًا يخوضها الكاتب بجنونٍ خاص حتى النهاية. نقد النفس بالكتابة، يكون تأثيره أعمق من نقدها باللسان. الكتابة تحب الدخول إلى الأعماق، بل وتستطيع النفاذ إلى صميم الأشياء، وهذا هو سِرُّ جمالها، وهذا أيضًا ما يجعلها ذات قيمة مُقدَّسة. وأريد الليلةَ الكتابة عن نفسي، ولكنّي عاجزٌ كثيرًا عن فعلِ هذا الأمر الخطير. إذن، وهذه عادتي، فالقراءة الآن هي البديل الوحيد أمامي. سأقرأ الليلة كتابًا جامعيًا في القانون، والقانون هو تخصصي العلمي. وفي الأمس كنتُ على وشك أن أخلص من قراءة “ثرثرة فوق النيل” لنجيب محفوظ، وبالطبع لستُ أدري ما منعني من ذلك. أحيانًا أعجز أن أقرأ كتابًا من الغلاف إلى الغلاف، أو حتى نصف كتاب، وإن كان كتابًا صغيرًا ومُمتِعًا في آن. وأحيانًا أعجز أن أؤدي عملًا شخصيًا بشكلٍ تام أو على نحو طبيعي. وأحيانًا أرفض كل شيء وأنطوي على نفسي فحسب، وليكن ما يكون. وأحيانًا لا أشعر بشيء، ولا أفكر في أحد، ولا أخرج من غرفتي إلى أيِّ مكانٍ آخر. أنا، باختصار، ضحية عدم قدرتي على الصبر. أو ضحية مللي الدائم. بل إنّي لا أدري لِمَ يحدث لي ذلك.
(2)
أفقد القدرة على الكتابة بمجرد شعوري باليأس من القراءة. انقطاعي عن القراءة يقطع شغفي الروحي بالكتابة. لا أستطيع الكتابة إلّا خلال فترة القراءة. القراءة هي وجبتي الضرورية التي تقذف بي إلى قلب الكتابة. ولكي أكتب شيئًا، فلا بد أولًا أن أقرأ شيئًا. ونادرًا ما أستطيع الكتابة خلال فترة انفصالي عن القراءة. إذن، القراءة، عندي، هي الوقود اللازم لأجل الخوض في عملية الكتابة بنجاح. وبالتأكيد فإنّ القراءة شرط الكتابة الأول. والذي يكتب ولكنه لا يَقرأ، أو يكتب كثيرًا ويقرأ قليلًا، فهذا كالذي يبذل جهدًا كبيرًا في سبيل اللا شيء، أو كالذي يستهلك اللغة عبثًا، أو كالذي يصب دمه في سلة. أولًا القراءة ثم الكتابة. القراءة بحث واكتشاف وتأمُّل، ثم يجيء دور الكتابة في خلق الفكرة الجديدة أو استخلاص الحقيقة الغائبة من نتائج البحث والاكتشاف والتأمل. من بحر القراءة يستخرج الكاتب جواهره وأفكاره التي سيكتبها في مرحلة لاحقة. القراءة هي سلطان الكاتب للنفاذ إلى سماء الكتابة. يجب أن نقرأ الحياة جيّدًا، وبعمق، وباستمرار، لكي تغدو كتابتنا نابضة بالحياة دائمًا. كما أنّ غاية الكتابة لا تقتصر على التثقيف والتنوير فقط، ولا تكتفي بخلق الجمال والمعرفة والدهشة على الورق، وإنما تذهب إلى أبعدَ من هذا الكون الفسيح. وسأظل أنتمي إلى تلك الكتابة التي تضع روحَ الإنسان أمامه وليس خلفه، وتضع كرامته فوق كل معنى. سأظل أنتمي إلى كل كتابة أساسها الحب إلى أقصى مدى. لتكن الكتابةُ نبضَ الحريةِ الدافقة التي تحتضن كل سؤال وكل جنون وكل جمال.
(3)
عادةً يفتك بي الملل إذا حل بي. إنه يحل بي في كل وقت. إنّ قلبي لا يحتملني أبدًا عندما تستحوذ عليَّ دوّامةُ المللِ. والملل باعث خطير على فقدان الشهية نحو الكتابة. أموت دائمًا من الملل. الملل موجود حتى في كثير من كتاباتي. وأحيانًا أتخِذُ الكتابةَ علاجًا ناجعًا للشفاء من الملل الذي يتأكّلني من الداخل. الكتابة تنتشلني من حالة الخوف إذا كادت تبتلعني. ثُمَّ، وأيضًا، يكفيني من الكتابة أنها تُخرِجني لبعض الوقت من أسْر ذاتي. وكلما خرجتُ من شرنقة ذاتي، عانقتْني شمسُ الحياة. الظلام أو الجحيم هو انحباس المرء داخل ذاته. ثم إنني لا أرى وجهَ الحقيقة ولا أرى وجهي العميق إلّا أثناء توغُّلي في شهوة الكتابة. الكتابة تُنسيني تعبي ويأسي من هذا العالم، وتُريني وجه الله الحقيقي، أجل تُريني وجهه الجميل جدًّا. وبلادنا، يا صديقي، يأكلُ وجهها وَجْهُ اللهِ المُزيَّف. ولكن الكتابة الصادقة ستظل دومًا ضد كل الوجوه المُزيَّفة. ضد الأقنعة القاتلة. ضد الزيف بكل ألوانه. إنها دومًا ضد الاستدمار على أي وجه كان.
(4)
إنه لا يؤلف كتبًا،
لكنه يصقل المرايا.
(قاسم حدّاد).
(5)
الله يقول لا يكتب.
الإنسان يقول ويكتب. .
(أدونيس).