- جمال حسن
كان حسن يكره مدرسته، وهي عبارة عن بناء زنكي مكون من ثلاثة فصول. واعتاد بين وقت وآخر التذرع بعلة تمنحه اسباب الخروج من الفصل، واحياناً الهرب إن رفض الأستاذ. يلتف حول الساحة التي تُسمى المقابر، لأنها كانت في السابق مقابر تراكمت فوق بعضها واختفت معالمها.
وعندما يصل الى الطريق يجلس مقابل دكان الحداد. ففي عالم القرية المحدود، كان حسن الذي لا يدرك مقدار تعاسته، يجد في مراقبة الحداد وهو يعمل امتع لحظاته.
هاجر والده قبل نحو اربعين شهر، وانقطعت اخباره تماماً. قال مرة انه سيذهب الى افريقيا بينما كان الناس يهاجرون الى الخليج في العادة. اخبرهم بأنه حين يستقر امره سيرسل لهم، ولم تأت اخباراً منه او من أي شخص آخر.
رفع ولده الوحيد وعانقه بقوة، قال له اشياء كثيرة، مثل انه سيكون رجلاً قوياً، وعده بحياة لم يفهم منها شيئاً. لكن مأساة حسن لم تقف عند ذلك، بعد عامين ماتت امه من الحزن، كانت النساء تقول عنها اشياء ساخرة، مثل ان زوجها ذو الوجه الوسيم هجرها وعائلته من اجل امرأة في المدينة. شاع لديهن ان نساء المُدن فاجرات.
كانت القرية سقيمة بالكره، ولم يجد من نبع الحب سوى جدته الحزينة، لكنه حباً لا يُحتمل باكياً مثل صلاة، وكانت تخبره دائما بأنه بلا ابوين كما لو تبرر له عاطفتها تلك. اما جده ذو الوجه المتجهم مثل كل اهل قريته كان يفجر غضبه من ابنه الغائب في وجه حفيده، لم يكن مستعداً للاعتراف بأن ابنه مات على عكس زوجته التي واتتها الشكوك.
كان يشاهد الحداد وهو يصنع اقفالاً وابواباً، وعلى مقربة منه عرشة تدور عنها حكايات سحرية. وبجانبها قبل ان تنحدر الى مدرجات الحقول، مساحة قاحلة عدا الصبار وشجيرات معظمها شوكية. كانت العرشة كثيفة وبمساحة بيت تهدم منذ زمن قيل في السابق انه ظل مسكوناً حتى اُقتلعت احجاره الواحدة تلو الأخرى ونمت في مكانها اشجار اكاسيا وشجيرات تشبه اوراقها الجاردينيا وتظل خضراء طوال العام، وفي منتصفها تتشكل دائرة مفتوحة تبدو الى الداخل عميقة بعض الشيء.
كف حسن النظر الى الحداد الذي كان يدخن سيجارة ويعمل بإنهماك، وبدأ يفكر ما إن كان قادراًً على الدخول من تلك الفتحة هل سيختفي. لم تكن هناك افاعي فالناس يتحدثون بأنها منبع الجنيات. لكن القصص عن اختفاء الأطفال بداخلها، تعود لزمن قديم بعمر جده. ومشى ناحية العرشة المسحورة، كانت الصبارات على مسافة صغيرة منها تشبه حيوانات وحشية استقرت بذلك المظهر منذ زمن بعيد. وحسن الذي لا يدرك تعاسته كان طفل لا يعرف ايضاً ماهية الأشياء.
ظل متردداً بعض الشيء، متأملاً في الثغرة تلك بين الأشجار وحين سمع اصواتاً تقترب سارع الى دفن رأسه في منبع الجنيات، ووجد ان بإمكانه دفع جسده الى الداخل والاختفاء داخلها، كانت الأغصان الكثيفة تتسع مائلة إلى الأعلى، ثم وجد ان بمقدوره الوقوف على قدميه.
وفي الداخل تراءى له مدخلاً صغير على شكل باب بينما كان يقف في مساحة ضيقة محاطاً بالأغصان. تضاربت فيه مشاعر مختلفة، ما بين الرغبة في الاستمرار والقلق. لكن حين شاهد سحلية تعبر المدخل القى تردده وتبعها لأنه كان مفتوناً بمطاردة السحالي وقتلها.
وجد نفسه في مكان اوسع تسقفه أغصان كثيفة ، وكانت الشمس ترسل ضوء من الفتحات، ثم يرتسم ممر ينتهي بفتحة مضيئة. وياللغرابة فالعريشة لم تكن تبدو بتلك المساحة، ما الذي حدث؟
فجأة خرجت من الأحراش صبية لم يشاهد مثل جمالها، ترتدي ثوباً ابيض يكشف ذراعيها وتضع على رأسها تاج بلوري. نسي الكلام لوهلة، وصعقه حين نادته بإسمه كما لو ايقظته. هل تعرفيني؟ سألها.
نعرف فقط الذين يدخلون الينا.
رد بصوت متهدجاً: هل دخل اخرون غيري ؟
مر زمن طويل على ذلك.. قالت وامسكت بالخرزة الزمردية في عقدها.
هل عادوا الى بيوتهم؟ سأل مفزوعاً.
قالت وهي تطارد بيدها فراشة، “لم يعودوا ابداً، لكن بمقدورك فعل ذلك إن حصلت على الخاتم”.
“أي خاتم؟” سألها منقبضاً بينما تشابكت اصابعه وكان يحركهما في دفعات على صدره.
“الخاتم الذي يرتديه الوحش الظريف” كان صوتها اكثر جدية.
سيأكلني الوحش” كان صوته باكياً واحس بسيقانه ترتجف.
طمأنته لكنه شعر بثقة حيالها، ربما تصور بأنه سيكون بطلاً امامها. كل ما يطلبه الوحش الاحتفاظ بالأطفال واللعب معهم، قالت له، وسيمنحهم كل شيء يريدونه عدا الذهاب الى منازلهم. شعر حسن بالندم لإقحام نفسه في هذا الأمر، لأنه يريد العودة الى منزله، فكر بمخاطر فشله. وتردد الى مسمعه ترنيمات الوحش الذي اخبرته بأن ذلك ايذاناً بولوجه نوماً ثقيلاً، وعليه ان يسارع.
لكن عليه ان يتخطى ثلاث عوائق، الجمل ذو الرأسين والسنامات الثلاث، ثم الثعبان الكبير ذو الأجراس، واخيراً الشجرة المتوحشة ذات الثمار السامة.
كيف سيتخطى ذلك، لم تقل شيئاً وهي تبتعد عنه وقبل ان تختفي وراء الأحراش الكثيفة المحيطة بهما اشارت بيدها نحو المدخل المضيء وقالت: عليك ان تتخطى الجمل اولاً.