- محمد ناجي أحمد
عشت حياتي كلها طيلة 53عاما بعرق جبيني ، منذ طفولتي الأولى حين كان عمري لا يتجاز الخمس سنين .
عملت في بيع الزعقة واللبان والبيض والأيسكريم المثلج ، وبيع الصحف والمجلات ، وشاقيا باليومية ، حين كان أجر الشاقي خمسين ريالا في اليوم…
دَرَّسْت الخدمة الإلزامية بعد الثانوية العامة عام 1987-1988 في مدرسة ناصر حلقان –قدس- المواسط-الحجرية، وعند انتهائي من خدمة التدريس كان مخبرو الأمن الوطني بانتظار صيدهم في نجد قسيم ، عند عودتي من قدس ، ثم أودعوني معتقل الأمن الوطني بحارة الجمهوري، كان هناك ما يسمى (الفرن) تحت الأرض ، وزنزانات في الجهة الغربية من الشارع كفاصل من بعضة أمتار بين الفرن وبين الزنزانات الصغيرة في شرقه…
سافرت سوريا عام 1989 رافضا لوظيفة في طيران اليمنية ، طالما أن تلك الوظيفة ستكون شراء لكرامتي وكينونتي …
لم أحصل في سوريا على مقعد دراسي ، بعد طول انتظار ،فالمناضلون مشغلون بهذيانهم اليومي الذي يدر لهم سكنا ومعيشة مريحة ، لم يكن من اهتماماتهم بناء مستقبل علمي للشباب ، وإنما هلوسات دكاكين تدر دخلا وتؤمن استثمارا لهم!
حصلت على مقعد ومنحة دراسية في ليبيا ، لكن التخصص كان طب بيطرة، لم يرقني التخصص وعدت إلى تعز ، لألتحق بكلية التربية – قسم اللغة العربية –عام 1990.كانت يومها تتبع جامعة صنعاء.
شاركت في انتفاضة و مسيرة الأحد الدامي عام1991م ، وغطيتها صحفيا ، بقصة صحفية نشرت بعنوان الأحد الدامي ، وترافق نشر الموضوع في صحيفة الوحدوي مع ذروة تلك الانتفاضة الطلابية…
كُنتُ يومها أجمع بين الصحفي المناضل ، الذي يغطي تحركاته ونشاطه الصحفي من مصروفه ، ويسير على قدميه مسافات طويلة لإنجاز عمله الصحفي النضالي، وكنت إلى جانب ذلك نشطا حركيا وتنظيميا في حشد الطلاب لانتزاع حقوقهم ، وأنجز صحفا طلابية كنت رئيسا لتحريرها ، و عضوا في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، , وأعد وأنفذ برنامجه الثقافي، بدعم وتشجيع حينها من عز الدين سعيد أحمد نائب رئيس فرع الاتحاد ، ومحمد عقيل الأرياني-رحمة الله تغشاه- رئيس الفرع.
في 11 ديسمبر 1992م اشتركت في انتفاضة ضد التجويع والجرعات الاقتصادية ، التي بدأت في تدرجها منذ عام 1991م . كنت قائدا طلابيا بما يتعلق بالمسيرات التي اندفعت من كلية التربية والآداب، ثم تم اعتقالي بعد أسبوع من تلك الانتفاضة.
كان المحققون والجلادون من أقذر كائنات الإخوان المسلمين ، علي السعيدي، وعبد الله القيسي ،الأول كان نائبا لجهاز الأمن السياسي ، والرئيس الفعلي ، والثاني كان متمرسا في ساديته !
بالأمس كتبتُ منشورا عن الثابت الانتهازي ، والمتحول في الأنساب، عن صديق اتخذ لنفسه طيلة العقود الماضية أربعة القاب ، منها : الخولاني ثم الهادي ثم اللوزي ؛ أي انتساب لوهم القبيلة والعرق والجغرافيا كجبل في الجوف…
رد عليَّ من تحسس البطحة في رأسه خلال الثواني الأولى برسائله على على التلفون، دُهِشت لهذه المتابعة السريعة لما أنشره ، وكانت دهشتي أكثر ، هو أنني لم أقترب من اسمه ، لكنني أردت سمة عامة لنموذج الانتهازية والاعتياش في اليمن، أولئك الذين يراكمون أرباحهم، ولو بتسليع ضمائرهم، فالموقف بالنسبة لهم ليس أكثر من قيمة مضافة إلى شرههم الدائم !
ابتدأني بقوله إنه يعرف عني الكثير ، ولو نبش فسيسقطني أرضا! وكان ردي عليه وبيقين دائم : إنني شديد السطوع والوضوح، إلى درجة أنهم يعمون من شدة سطوعي ووضوحي، وعدم مخاتلتي…
ثم أخبرني في سياق تهديده أن أحد الضباط من أصدقائه قال له بأن جهاز الأمن ،ولا أدري هل يقصد الأمن الوطني في الثمانينيات، أو الأمن السياسي في عقد التسعينيات- حين اعتقلني جندني للنيل والانتقام من أصحابي، يقصد النيل من اليسار ، وعلى هذا يتم تفسير كل كتاباتي على أنها تنفيذ لتكليف !
قلت له في أي اعتقال كان (التجنيد) ؟ في الأول أو الثاني أو الثالث؟
أردت من سؤالي أن يضبط بوصلة قصته ، لم يجب لأنه ليس معنيا بمنطق قصته حين ينال من مصداقيتك!
المخبر لا يستطيع أن يراك إلاَّ بمنظاره وصورته، والإقطاعي وشبه الإقطاعي لا يراك إلاَّ وفق مرجعيته القيمية ، فأنت عند الأول منتقم من المجتمع ومجند ضد اليسار ، مع أن كتاباتي النقدية ليست محصورة في اليسار فقط ، بل تشمل كل خطاب سياسي أو أدبي أو تاريخي- والثاني لا يراك إلاَّ وفق مرجعيته القيمية ، فأنت عنده منحط ، وهذا توصيف طبقي بامتياز!
العجيب –بل ليس في الأمر عجبا- أن صاحبي متحول الأنساب كان قد عرض علي أن أعمل ذبابا اليكترونيا ، ضمن الجيش الأليكتروني الذي تموله قَطَر، بمقابل مادي 200ألف ريال يمني شهريا ، مقابل كتابة منشورات يومية في تويتر والفيسبوك تتعلق بالمهرة وسقطرى وغيرها من أحداث المحافظات الجنوبية ، مع التركيز على طلب صداقات من أبناء المحافظات الجنوبية!
وحين رفضت لم يستطع تفسير ذلك إلاَّ على صورته وتسليع ضميره، وهو أنني أعمل مع الإمارات بعرض ومبلغ أكبر!
لقد مارس محققو الأمن السياسي أثناء تحقيقهم معي أعنف تعذيب نفسي ، وشتم أخواتي ، ورتبوا لتصفية جسدية تمثيلة في أحد الأيام ، عند إعادتي من التحقيق قرب الفجر، بعد تحقيق استمر لثلاثة أسابيع، يستمر كل يوم منذ الساعة 11ليلا وحتى الفجر.
في ذلك اليوم وقبل إدخالي إلى الزنزانة وضعوني داخل حلقة من جنودهم ومخبريهم، تشبه تماما حلقات الإخوان المسلمين حين يناقشونك في الجامعة بقضية سياسية أو فكرية ، فيتحلقون حولك بدوائر عديدة ، لاستنزافك وإرهاقك وإنهاكك. لكن حلقة مخبريهم وجنودهم في الأمن السياسي كانت بمسدسات وجنابي وخناجر ، حينها سقطت أرضا ، وأغمي عليَّ ، وبعد وقت حين صحوت أعادوني إلى الزنزانة التي ظللت أسابيع فيها أنام على البلاط ، دون فراش أو غطاء، في شهر ديسمبر شديد البرودة، ثم بعد شهر تقريبا سمحوا بدخول الفراش والغطاء الذي جاءت به والدتي من البيت، بعد أن جعلوها هي وأبي يبكون روعا وخوفا!
قال علي السعيدي لأبي :أيش يقع لك ، فقال له أبي إنني والده، رد علي السعيدي بتهديد : لا قل بأنه ليس ابنك ، فاندفع الوالد بالبكاء، قائلا إنه ابني!
بعد خروجي من المعتقل عام 1993م كان الفضاء العام في الجامعة التي فصلت منها ، ولم أعد لاستكمال دراستي إلاَّ بعد عام ، وفي الوظيفة بعد تخرجي والتحاقي بالتدريس – كان الفضاء العام سجنا أشد وطأة من المعتقل الصغير(الزنزانة) كان الفضاء العام كاميرا مراقبة يومية تحاصرني وتحصي أنفاسي ، كانوا يراقبون كل لفظ ونشاط وحركة وزاوية ألجأ إليها للقراءة!
إنهم لا يريدون محاسبة ضمائرهم، ولا التوبة وإنصاف من ظلموهم ، بل الاستمرار في قبحهم حتى النزع الأخير من جفاف روحهم ، فسوط الجلاد أصبح هويتهم ومتعتهم !
ملاحظة :في عام 1989 تم اعتقالي في الفرقة الأولى مدرع ، بصنعاء، وأصبت بتسمم ، بسبب تلوث الطعام والزنانة ،فقد كانت تحت الأرض ، ومخلفات الحَمَّام الآدمية تسيح داخلها!