- ضياف البراق
وكنا مجموعة من الأصدقاء الشباب نناقش ظاهرة الكتابة التفاهية والبلائية المنتشرة هذه الأيام على فضاء فيسبوك تحديدًا وكثيرًا، وكذلك على بقية منصات النشر الإلكترونية الثقافية المحلية، ونتناولها بالنقد الساخر الخفيف الضرب، والرفض المجنون المؤقَّت، وندعو الله أن يجنّبنا شرها وشر الصدام مع أهلها الصالحين الطالحين. واستمر النقاش الجدلي والعشوائي ساعةً كاملة، وضحكنا كثيرًا على أنفسنا المنهوكة بضغوط الحرب، وفي نهاية المطاف لم نخرج بنتيجة مفيدة. وغدًا سنلتقي في المكان نفسه، وسنفتح الموضوع نفسه، وسنناقشه بالطريقة نفسها، وسنضحك كثيرًا على أنفسنا، وفي نهاية المطاف لن نخرج بنتيجة مفيدة. هذه تفاهة أيضًا. واقعنا مُمِل بلا حد، وكئيب من كل جهة، والتفاهة في هذه الحالة لسنا بغنى عنها. نهرب من وحشيّة الملل إلى أحضان التفاهة إلى مَلَل آخر أكثر وحشية. ونظن أن التفاهة هي وطن المُحبَطين في زمن الحرب بالذات. التفاهة ليست شرًا كلها.
وقال أحدنا وهو يشفط سيجارته التافهة: إننا نخاف من انتشار التفاهة في الوسط الأدبي بل وفي كل مجال. تنتشر التفاهة يومًا بعد يوم، وباستمرار يتضاعف عددُ التافهين على حساب الثقافة والحداثة، وقد نكون منهم. إنّ بعضهم يلجأ إلى الكتابة لنشر تفاهاته من خلالها، أو لتحقيق أهدافه الانتهازية أو اللصوصية أو التجسسية، أو لتفريخ المزيد من التافهين وتسويق الكثير من التفاهات. كفانا الله شرهم!
وقال صاحبنا الآخر، من جانب آخر، وهو يضحك على نفسه بشكل آخر: هناك من يكتبون كلامًا ركيكًا يأتي على أعلى درجة من التفاهة والابتذال، ساخرين به من قيمة العميقين الذين يقدّسون كرامة الكتابة ويحترمون الذوق الحضاري. إنهم يطالبون العميقين أن يكونوا تافهين على شاكلتهم. يريدون إنزال الكتابة إلى مستوى ذوقهم العادي وبالأصح البليد. يريدون الكتابة كالجثة الميتة، كالشمعة المطفأة، كطبخة فاسدة في عُلْبة نظيفة، أو كصورة شخصية لامعة معلقة على جدار جامد. لن نكون تافهين تحقيقًا لرغبات التافهين. الكتابة الإبداعية لا تحتمل التفاهة ولا مكان فيها لأحلام التافهين. ولا بد أن نقول لهم من مكاننا هذا: تراجعوا إلى الخلف أو ارتقوا قليلًا، الكتابة خط أحمر أو مع الحليب.
وقال أكبرنا يأسًا وأشدنا صوتًا وهو كالعادة يحك أنفه بأسلوب مقرف: هناك تافهون يريدون المبدعين الجيّدين أن يكونوا سطحيين مثلهم. هناك الذين يثرثرون من خلال الكتابة ولكن الكتابة ستركلهم إلى النسيان ذات يوم. وهناك الذين يكتبون لنشرَ الكراهية فحسب. هؤلاء سيفشلون أيضًا. وأمّا أهل “الفن للفن” فقد انتهى زمانهم. وهناك السطحيون الذين يعتقدون أن تبسيط الكتابة يخدم الكتابة أو يزيدها شهرة بين جمهور القراءة. غير أن التبسيط لا يفيد الكتابة في شيء، وإنما يجعلها خاوية من الداخل، فتصبح بلا روح. البساطة شيء والتبسيط شيء آخر. وأنا شخصيًا أرفض الكتابة المبتذلة، عديمة الروح. ثم إنّي لا أطيق تلك الكتابة الأدبية التي لا تهز روحي من صميمها، أو لا تربكني بجمالها الآسِر، أو لا تزيدني اتساعًا أو اندهاشًا على مستوى الفكر. لقد كتب الكثيرُ منهم الكثيرَ من السخريات التافهة ضد الأدب الإدهاشي العميق. ضد العميقين الفنّانين. إنهم عاجزون عن الخروج من دهاليز الكتابة التقليدية، ولذلك يهاجمون الحداثيين العميقين. إنها حربُ السطحيين والمتعمِّقين ضد العميقين الجميلين. إنها حربُ الغث على السمين. والسطحيون يكتبون إنشاءً مدرسيًا، والعميقون يكتبون أدبًا رفيعًا.
وقال الوغد الجميل الذي يجلس أمام وجهي الناشف: نحن مع العميقين الحقيقيين لا مع أدعياء العمق. مع البساطة لا مع التبسيط. أمّا الذين يسخرون من العميقين فهم أصحاب الوعي المعاق، والثقافة الهزيلة، واللغة الميّتة أو الجافة، والذائقة الرثّة. إنهم ضحايا الفقه الديني والهراء القديم. إنهم الطارئون على الكتابة والأدب، المنهمِكون بتوافه الأمور، الثقلاء على اللغة، المتهافتون على أي ابتذال شعري أو نثري. وهم إذ يسخرون من العميقين، إنما يقترفون جرمًا فظيعًا في حق السخرية التي هي في الأصل ضد السطحية والتفاهة. حتى السخرية أنهكوها بدمهم الثقيل، وقتلوا مغزاها العميق والهادف. إنهم الأردياء من المحسوبين على الكتابة والثقافة.. ها هم يهاجمون العميقين بالسخرية التافهة من كتاباتهم العميقة، وهذا دليل صارخ على أنهم بلا ثقافة ولا إحساس. يا ويل الكتابة من هؤلاء المستهتِرين بها! لا عجبَ أيها الأصدقاء، هكذا هم السطحيون: لا يمجِّدون إلا أتفه الكتّاب، ولا يهضمون إلّا أردأ الكتب والجرائد السخيفة والمجلات الخالية من أي فكر ومن أي جمال ومن أي ذوق أنيق. وهم لا يقرأون إذا قرأوا، ولا يكتبون إذا كتبوا، وإذا لقوا الدهشة تسعى في طريقهم فلا تهتز لهم عاطفة.
ثُمَّ نشعر بالتعب من طول الجلسة، ونشعر بالملل من كل شيء، وتجف حلوقنا من فرط الكلام التافه، وينتهي نقاشنا المجنون على لسان صديقنا الروضاني (نسبة إلى أمه روضة)، وهو دومًا مقاوِمٌ عنيد لدعاة التفاهة وأعداء العُمْق: التقليديون الذين يهاجمون الكتّاب العميقين، ويسخرون من الكتابات المتمردة والعميقة، لا شك سوف تجدهم متصالحين مع الموروث كله، ومشدودين إلى المألوف بكل أنواعه، ومتزمتين ضد أي أسلوب جديد في الكتابة، وضد كل حقيقة فكرية أو جمالية لا تروقهم. إنها الذائقة الهابطة لا تذهب إلى أعماق الأشياء، ولا تستسيغ كل ما هو جوهري، ولا ترى الفرق الشاسع بين الكتابة والثرثرة. لكن التفاهة هي صاحبة الحظ دائمًا. وستظل هي صاحبة الجمهور الغفير على الساحة. التافهون الثقلاء يتكاثرون، ويتطاولون، قارعوهم إن شئتم أو دعوهم وشأنهم، والأخير هو الصحيح.