- محمد عبدالوهاب الشيباني
لسنوات طويلة بقيتُ أحتفظ بنسخة مهترئة من كتاب ” الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي” بغلافه الأزرق الداكن ، فقد كان بالنسبة لي ، مثلما هو لأبناء جيلي وعموم المثقفين اليمنيين ، واحد من كتب التكوين السياسي المهمة ، لما يعرضه من قضايا في غاية الخطورة والحساسية للعلاقة بين السلطة والقبيلة ، التي عملت بكل الأدوات المتخلفة على إعاقة بناء الدولة ، وكذا تبديد الأمل في انتاج قاعدة مشتركة للمواطنة المتساوية بين السكان بغير ما تمايزات مناطقية ومذهبية في عموم مناطق “الجمهورية العربية اليمنية” وقتها.
الكتاب الذي ظهر أواخر الثمانينيات ، وكان يتنقل بين القراء النهمين كمنشور سري ،بسبب منع تداوله أو كما قال الاستاذ عبد الله البردوني عنه ” لاقى منعاً لا تلاقيه تجارة المخدرات ” وقِّع وقت إصداره الأول باسم ” الكاتب اليمني الدكتور محمد عبد السلام” ، والذي لم يكن معروفاً باسمه وصفته المستعارتين لا في شمال اليمن ولا في جنوبها ، وإن كانت بعض استنتاجات القراءة وقتها قد أشارت صراحة الى اسم الدكتور “أبوبكر السقاف” في مسألة صياغته النهائية، بعد أن كانت أفكار محتواه الرئيسة حصيلة نقاشات معمَّقة وطويلة في أوساط نخبة من المثقفين اليساريين في عاصمة شمال اليمن، أو كما ورد في تقديم طبعته الأولى:” حصيلة جهد جماعي ومناقشات استمرت طويلاً ، أسهم فيها كثير من الأشخاص في صنعاء. ثم قام شخص واحد بالصياغة النهائية لمواد الكتاب من أجل الاتساق في الأسلوب والمصطلح.”
كتاب ” الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي” صار ومنذ أيام قليلة (*) متداولاً بطبعة معقولة وباسم مؤلفه الحقيقي الدكتور أبوبكر السقاف ، وبالمصادفة حصلت على نسخة منه في ذات اليوم التي انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي إشاعة وفاته بموسكو ، وفي هذه الطبعة أعاد الدكتور السقاف في تنويه ما قبل المقدمة التذكير ببعض ملابسات تأليفه واصداره في تلك المرحلة، التي أعقبت الزلزال السياسي الذي عصف باليسار اليمني في يناير 1986 ، فظهرت سلطة صنعاء في اكتمال انتشائها السياسي بتفكك أهم حاضنة لمعارضيها السياسيين، والأهم تعطيل النموذج الجاذب في بناء الدولة خارج معادلات رعاتها الاقليميين في منظومة الدول الرجعية مثل السعودية ، فعملت وبقوة على ترويج وتسويق خطابها وأدواتها كنموذج بديل لعموم اليمن بعد الزلزال ، فكان لابد أن يظهر خطاب سياسي بمسوغات فكرية ناضجة لتعرية زيفها واستبدادها، وهو ما حمل أهم أدواته هذا الكتاب.
وسنحاول في هذه المساحة ، وعلى جزئيين، استعراض الأفكار الحيوية في محتوى الكتاب ، والتي لم تزل قادرة على انتاج تعليلات حيوية لجملة الأعطاب التي أصابت حلم اليمنيين الكبير ” مشروع الجمهورية” بمقتل.
جاء في التنويه :” يتم اصدار الطبعة الجديدة من الكتاب الموسوم بـ” الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي” والذي أصدرته في ثمانينيات القرن الماضي باسم مستعار هو : ” الكاتب اليمني الدكتور محمد عبد السلام” ، حيث كانت مرحلة إصدار الكتاب آنذاك تتسم بقمع حرية الرأي والتعبير والملاحقات الأمنية للناشطين ، والمفكرين السياسيين، وخاصة من اليساريين والقوميين الذين لا يتماهون مع السلطات الحكومية ، ويتعرضون للاعتقالات التعسفية والإخفاء القسري” .
الكتاب كما بيَّنه التقديم “يجيب عن أسئلة محورية عديدة ظلت منذ أمد دون معالجة ، ومن بينها سؤال : لماذا لا يتمتع جميع أبناء اليمن الشمالي حتى الآن بحقوق مواطنة متساوية لا تفرِّق بين أبناء الوطن الواحد؟ وبكلمات أخرى : لماذا لم يستقر مفهوم المواطنة بدلاً من مفهوم الانتماء القبلي على الرغم من سقوط الإمامة منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً”
باختصار شديد – كما جاء في التقديم أيضاً- يعالج هذا الكتاب في وضوح كثيراً من القضايا التي لايزال يتوهم الكثيرون أنها تقع ضمن المحظورات، بينما لا تكف قوى مختلفة تنتمي حقاً الى القديم وعالم الإمامة عن تناول نفس هذه القضايا من منظورها الخاص ، ومن أجل ترسيخ مفاهيم وتقاليد تنتمي بدورها الى أنظمة التخلف، والقهر أكثر من انتمائها للعصر الحديث واليمن الجمهوري .