- د. قائد غيلان
يتفنن بعض الكتاب في توصيف أعمالهم، ويتجنب بعضهم توصيفها توصيفا دقيقا من باب إشراك القارئ في تحديد الجنس الأدبي للمقروء. من ذلك هذا الإصدار الجديد للكاتب محمد الشميري تحت عنوان:( رياح في قصاصة عنيدة) حيث وصفه في الغلاف بأنه( قصاصات قصيرة جدا)، وهو عنوان يتجنب وصف ” قصص” ويترك ذلك للقارئ.
يحتوي الكتاب قصصا قصيرة جدا يتخللها عدد قليل من النصوص الطويلة التي تتجاوز الصفحتين، والحجم محدد رئيسي من محددات الق. ق. ج.
كُتِبت النصوص جميعها بلغة جميلة تتوخى الإدهاش والمفارقة، بل تتعدى المفارقة إلى درجة أعلى وهي غياب الروابط، مما يقطع على المتلقي إمكانية القفز على النص وتوقع نهاية معينة له انطلاقا من خبرته مع الق. ق. ج التي لابد أن تصدمك بنهاية مغايرة لما فكرت فيه.
إن نصوص هذه المجموعة تحتفظ بأسرارها منذ العناوين التي اختيرت بعناية واختزال جميلين، وحتى نهاية كل نص. فأنت دائما أمام رياح عاتية تحتضنها قصاصة صغيرة، وليس بوسعك أن تدرك ما تقوله الرياح في قراءة واحدة.
هنالك دائما مسافة بين النص والقارئ، خاصة في النصوص عالية الدقة مثل نصوص هذه المجموعة. وسأقف هنا مع نص متوسط الحجم أنموذجا لنصوص المجموعة، وهو بعنوان ” سؤال من الدرجة الثالثة”..
يتوزع النص في ست فقرات أو مشاهد مختلفة الأساليب؛ ففي الفقرتين الأولى والثانية نجد سؤالين يطرحهما السارد، وهو ما قد يرضي القارئ الذي سيبحث عن سؤال في النص مادام لفظ ” سؤال” موجود في العنوان:
“لماذا تصرون على أن الحقيقة هي تلك القابعة في عمق التقكير وأن لونها ناصع كالحليب؟!
لماذا تظلمون السطح والفهم القريب وتحتقرون صاحبه، ليعيش في الظل العازب ترفضه الجميلات؟!”
يدور التساؤل هنا حول ثنائية العمق/ السطح، في انحياز واضح للسطح. ثم يترك النص هذا التسا،ؤل وينتقل إلى مشاهد أخرى متناسيا تساؤلاته أو مهملا لها:
” كان صوت الممرضة يرهق الصدى، بل لم تنتظر سماع ردّات فعلهم، ظلت عيناه فاغرة كأنما سمعت حديثها …
سرت في في تضاريسه قشعريرة جعلته يعيد النطر في هندام غيبوبته، حكّت صلعته بنصف ظفر ودمعة، ثم توجّهت نحو الباب مغادرة قسم الحروق” .
يدخل النص الممرضة ثم المريض، ويصدمنا بعبارة” قسم الحروق” ما يجعلنا نعود إلى العنوان فالدرجة الثالثة التي كانت وصفا للسؤال تصبح الآن قابلة لتأويل آخر مرتبط بالحروق، وحروق الدرجة الثالثة هي أخطر أنواع الحروق، وذلك عندما تحرق جميع طبقات الجلد الثلاث، وقد يؤدى ذلك إلى تلف العظام والعضلات.
ثم ينتقل النص إلى مشهد آخر:
” هناك في الحديقة الافتراضية للمستشفى كانت حبيبته تجلس على كرتون مهترئ كاحلامها الجافة، جلست إلى جوارها ووضعت ورقة ملوّنة بالتعديلات والأسماء ..”
وهنا يدخل عنصر جديد ” حبيبته” ومرأة أخرى، والأغرب هما مفردتا ” التعديلات والأسماء” وهنا تغيب الروابط بظهور عناصر جديدة لا علاقة لها بسياق المشاهد السابقة، ليملأها المتلقي بنفسه، ورغم ان النص يحتاج إلى تأمل عميق فالنص يدعونا في بدايته ألا نكون عميقين أكثر من اللازم، فالجمال موجود في السطح لا في الأعماق. ويختتم النص بهذه الفقرة:
” لم يكن يحاول الانتحار صدقيني؛ لكنه تخلّص من جلده المكتظ بالقبلات!”..
يطرح النص هنا إشكالية أخرى يدسها النص في كلمة واحدة ” صدقيني” لولا كلمة ” صدقيني” كنا سنعتبر العبارة من ضمن لغة السارد صاحب التساؤلات في البداية. كلمة ” صدقيني” تثري النص بفتح مجالات التأويل والبحث عن صاحب/ة العبارة ودلالاتها.
هذا التنويع في المشاهد والمراوغة في تقديم المعنى، وطرح عناصر غريبة على سياق النص تمنح النص شرعيته الأدبية وحقه في الانتماء لذلك الجنس الأدبي الذي يتكئ على مجموعة من الخصائص منها الإدهاش والمفارقة والتلميح والإيجاز ..
ما علاقة الأسئلة العميقة بحروق الدرجة الثالثة، وما علاقة ذلك بالممرضة والمرأة والأسماء والتعديلات والانتحار والقُبل ..