- هدى جعفر
تحذير: في المنشور معلومات قد تكون مؤلمة ومزعجة للبعض.
في الفيلم الوثائقي “صرخة من القبر” الذي أنتجته قناة بي بي سي في 1999 (أول تعليق)، رأيتُ شيئًا من أقسى ما رأيت في حياتي، الأب البوسني رامو يُجبره الصرب لينادي ابنه نيرمِن المختبئ في الجبال، إنهم يُريدون قتله مع والده، الأب يعرف نيتهم ولكنّه مجبور على النداء، نداء عميق، مؤلم، وجزع، نداء لا يحتاج لترجمة ولا لشرح (الدقيقة 4:07 وحتى يظهر اسم الفيلم)
11 يوليو/تمّوز 1995 كان يومًا “عاديًا” تقريبًا لكل من يقرأ هذا المنشور، يوم زواج، أو يوم التخرج، أو “يوم عيد ميلاد أحدهم” كما قال حسن نوهانوفِتش أحد الناجين من مجزرة سربرينيتشا التي وقعت في مثل هذا اليوم تحت سمع وبصر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، مجزرة سربرينيتشا الأسوأ والأكثر وحشية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
خلال سني الحرب الثلاث ارتكب الصرب في حق بني جلدتهم مالا يصدقه أحد، وما لم يصدقه البوسنة أنفسهم، هناك في تلك البلاد الساحرة ذُبح الآلاف من الناس، تحولت النوادي الرياضية و مدارس الأطفال إلى ساحات تعذيب وغرف للاغتصاب والإعدام، قصص خارج حدود العقول، “أنجس” تطهير عرقي منذ أن وعيت على الدنيا.
ما يميز الجثث خلال الحرب في البوسنة، شيء محير فعلا، فأنت تنظر إلى جثة ولكن لا تستطيع أن تحدد الطريقة التي ماتت بها، فالأسباب خليط من التعذيب والحرق ( قبل وبعد الموت) والهرس والذبح والطعن والتهشيم بأدوات حادة وغير حادة، و الإخصاء وبتر الأطراف للرجال والنساء والأطفال، ولم يسلم من الاغتصاب حتى الرجال والمسنين حيث تم تسجيل أكثر من خمسين ألف حالة اغتصاب خلال ثلاث سنوات، وأعتقد أنّ الرقم أكثر من ذلك بكثير.
لماذا مجزرة سرِبرينيتشا بالذات؟
لقد تدخلت الأمم المتحدة بأكثر من طريقة آخرها أنها أعلنت مدينة سربرينيتشا مدينة آمنة وأنها تحت حماية الأمم المتحدة وفقا للقرار 819، وقد وصل المدينة 600 جندي من قوات حفظ السلام من الجنسية الهولندية (ذوي القبعات الزرقاء) وقائدهم الكولونيل كاريمانس، وعليه فقد تجمع الأهالي من القرى والمدن المجاورة في سربرينيتشا والذي بلغ عددهم أكثر من خمسين ألف لاجئ ولاجئة.
خلال الفترة من 6 وحتى 8 يوليو/تمّوز 1995 بدأت دبابات القوات الصربية بالتحرك نحو المدينة التي تقف في مدخلها مبنى قاعدة الأمم المتحدة الشهير ذي الطابق الواحد، وقتها طلب المقاتلون البوسنة من قوات حفظ السلام إعطائهم أسلحتهم حيث قد سلموها لهم بناء على بنود القرار 819 المشئوم ولكن طلبهم قوبل بالرفض.
وقبل المذبحة بيوم أي في 10 يوليو/تمّوز طلب الكولونيل كاريمانس دعم جوي من حلف الشمال الأطلسي ولكن الجنرال بيرتراند خافيير في سراييفو و المسئول عن البت في هكذا موضوع رفض الطلب!.
وفي عصر يوم 11 يوليو 1995 دخلت القوات الصربية مدينة سيربرينيتشا بالدبابات بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش والذي ظهر وهو يتوعد البوسنة بالانتقام في شريط مصور ظهر على أكثر من قناة، كرر البوسنيون طلبهم من قوات حفظ السلام بأن تعطيهم الأسلحة ولكنهم رفضوا ذلك بل ومنعوهم أيضا من استخدام الأسلحة الخاصة بالأمم المتحدة، وفور وصول القوات الصربية أخذت 30 جنديًا هولنديًا كرهائن، و التجأ عدد من البوسنة إلى قوات حفظ السلام حيث احتمى بالقاعدة خمسة آلاف شخصٍ وبقى قرابة 20 ألفًا في العراء لعدم وجود أماكن شاغرة، طلب الجنرال ملاديتش من قائد قوات حفظ السلام الكولونيل كاريمانس الاجتماع بشكل عاجل، ثم قررت قوات حفظ السلام تسليم المدنيين البوسنة الذين التجئوا إلى قاعدة أكبر وأهم منظمة تعنى بحقوق الإنسان في العالم إلى صرب البوسنة مقابل تسليم الرهائن الهولنديين، وحيث كانت قوات حفظ السلام يقفون على بعد إنشات من الصرب كان الأخيرون يطلبون من الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 12 وحتى 70 على ركوب شاحنات لأخذهم إلى المستودعات وملاعب الكرة والمدارس القريبة، وعلى مدى خمسة أيام تم قتل أكثر من ثمانية آلاف طفلٍ ورجلٍ ومسنٍ بوسني، ثم دفنوا في مقابر جماعية و منهم من دفنوا أحياء، و ذكر أحد الذين شاركوا في عمليات الإعدام الجماعي في شهادته أمام القضاء بأنه عاني من تعرض إصبعه الإبهام للتنميل نظرا للكم الهائل من الإعدامات التي نفّذها، حيث أنه لم يعد قادرًا على قتل المزيد، وذكر شاهد عيان بأن الصرب طلبوا من البوسنة حفر قبورهم بأنفسهم حفظا للوقت والجهد، وذكر شاهد عيان آخر بأن رجال البوسنة استسلموا لنوبات هستيرية جنونية مما جعلهم يطلقون النار على أنفسهم أملًا في أن يُظهر الصرب رحمة بالجرحى والمصابين.
من استطاع الفرار من الرجال البوسنة وصل بعد ستة أيام إلى مدينة توزلا بأقدام دامية وملابس يعلوها الغبار والعرق والدماء ، حيث سمع العالم بوقوع المجزرة يوم 16 يوليو مع وصول أول الناجين الذين انفجروا في بكاء مؤلم أمام كاميرات التصوير، وتم اكتشاف في المقابر الجماعية لوحظ ندرة وجود هياكل عظمية سليمة والسبب أنه وبعد أن دفن الصرب الجثث أخرجوهم بالجرافات ودفنوهم في سبعين مقبرة فرعية أخرى حول مدينة سيربرينيتشا في محاولة لإخفاء آثار الجريمة.
المسئولون الثلاثة الأبرز في هذه القضية، هم سلوبودان ميلوزوفيتش رئيس جمهورية صربيا، ورادوفان كاراديتش القائد العام للقوات الصربية، وراتكو ملادِتش الجنرال الذي كان مسئولًا مباشرًا عن تنفيذ المجزرة.
أين هؤلاء الثلاثة؟
وفي عام 2001 مثل رئيس جمهورية صربيا الرئيس سلوبودان ميلوزوفيتش أمام محكمة الجزاء وهو أحد المتهمين الرئيسين في وقوع جرائم إنسانية وإبادة جماعية في حرب البوسنة، حيث كان دائم السخرية من القضاة ولا يعترف بشرعية المحكمة ويرفض توكيل محام عنه واستمر الحال حتى وجد ميتا في غرفته في 2006، أما رادوفان كاراديتش القائد العام للقوات الصربية والذي وجهت له سبع تهم منها ارتكاب جرائم بحق الإنسانية فقد اعتقل في 2008، وصدر ضده حكمًا بالسجن لمدة أربعين عامًا ثم بالمؤبّد (ههههههههههه!)، وقد تم القبض على راتكو ملاديتش في 2011 ومازال يُحاكم حتى كتابة هذه السطور.
اليوم تحل الذكرى الخامسة والعشرين لهذه المجزرة المروعة، وقد ذهب بعض الأهالي في البوسنة إلى المقابر لزيارة شهدائهم الذين فارقوهم بأبشع الطرق، وحتى اللحظة ما زال المئات من القتلة والمغتصبين أحرارًا، وحتى اللحظة ما زالت الأسر البوسنية تبحث عن أحبابهم، أو ما تبقى منهم، حتى إن كان ذلك في هيئة، شعر رأس، أو عظام نخرة، أو فردة حذاء.
ونداء رامو والد نيرمِن الذي لم يشاهده أحد بعد ذلك اليوم ستظل من أقسى ما رأيت.
- صورة لدمية وُجدت فوق إحدى المقابر الجماعية، الصورة ضمن مشروع “سربرينيتشا: مجزرة في قلب أوروبا” للمصور السوداني/البوسني طارق سمارة وهو أيضًا مؤسس متحف 11.7.1995 لتخليدِ الضحايا.