- كتب: ماجد زايد
“حين تتحكم البنى العصبية في وطن ما يتحول كيانه إلى مجرد وعاء شكلي معرض لشتى الأخطار الداخلية والخارجية، ذلك أن قوة الوطن ومنعته تتوقفان على درجة انصهار مختلف شرائحه وفئاته ضمن كيانه الذي يتجاوز كلاً منها”.. (مصطفى حجازي).
توطئة:
تشكل الحالة اليمنية نموذجاً بليغاً للصراع الإثني بين عنصريات متفاوتة. إننا بصدد المقابلة بين أسطورة شعب الله المختار الذي فُرض عليه استعادة الأرض وتحرير الحق السلطوي الممنوح من السماء، ذلك ما يحدث في العصبيات الدينية الأصولية التي تعتبر نفسها الفئة الناجية من الظلال وصاحبة العقيدة الصحيحة، العصبيات التي يتعين عليها بالتالي تطهير الأرض من الفئة الضالة والقضاء على الشرور والآثام واستعادة نقاء العقيدة، ومعها استعادة السلام على الأرض، أي استعادة الفردوس المفقود.
الأشكال الأربعة للهاشميين في اليمن:
إشكالية الهاشمية في اليمن تاريخية إلا أنها وبالرغم من تلاشيها عادت مجدداً للواجهة بعد سيطرة أنصار الله (الحوثيين) على السلطة في صنعاء. مجموعة كبيرة من القيادات الحوثية ينتمون للهاشميين ولا يخفون تفاخرهم بفكرة آل البيت، السلالة الأحق والأنقى والأطهر، فكرة الولاية القطعية. هذه الإشكالية توسعت مع الوقت وافتعلت شرخاً مجتمعياً توسع ويتوسع مع الوقت.
أنا هنا لست بصدد الرد والدحض أو التأويل، سأكتفي بعرض الواقع من زاوية قريبة.
الهاشميون انقسموا حول فكرة الأحقية والولاية ومواجهة الواقع اليمني إلى أربعة أشكال، مع احتمالية التقاء الأشكال الثلاثة في إطار الأسرة الواحدة بالطبع.
الشكل الأول يأتي في الهاشمي المؤمن بضرورة الولاية وأحقية السلالة بالسلطة والحكم وأنها وبلا شك نجاة العالم، هؤلاء يشكلون القيادات الفعلية للحوثيين في الجانب السياسي والعسكري والتنظيمي، هؤلاء لهم صلاحيات مطلقة في الثروة والسلطة وانصياع المنخرطين في القواعد الحوثية لهم، هذا الشكل الحوثي هو الأخطر فعلياً وهو ما يشكل دولة الحوثيين العميقة، دولة الجيش والشرطة والمال والضرائب وكل شيء، وبقية العناصر البشرية ستجدها محصورة بين الجندية والموت ولا مناصب مرتفعة.
إننا بصدد سلالة تعتبر نفسها الفئة الناجية من الضلال وصاحبة العقيدة الصحيحة، السلالة التي يتعين عليها بالتالي تطهير الأرض من الفئة الضالة والقضاء على الشرور والآثام واستعادة نقاء العقيدة، ومعها استتباب السلام على الأرض، هذه المكونات الأصولية مهما بالغت في إظهار انفتاحها على الآخرين إلا أنها تنظر للأشخاص من خارجها بنظرة الغريب، اللاإنسان، ومن هنا فالتضحية به باعتباره اللاإنسان لا تصبح ممكنة فقط بل هي واجبة وتتخذ دلالة العمل النبيل للقضاء على الشر والسوء واستتباب نعيم الأم/الثدي الذي يمثله كيانهم العصبي..
هذه الفئة بدورها ولدت عوامل مناوئة لها في المجتمع المحيط بشكل متطرف مستدعيةً نماذج وتجارب تاريخية قديمة، هذه الفئة هي الظلال والخطر المجتمعي الكبير، ردة الفعل لم تكن لتظهر أو تتصاعد لو لم تكن للدخان نار مشتعلة، نار السلالية التي أوقدوها تتنتشر في الوسط اليمني المناوئ لها كانتشار النار في الهشيم، هنا تكمن السببية في الكارثة، الكارثة التي يخشى الجميع منها.
الشكل الثاني من التفاعل والتجاوب الهاشمي مع الولاية والأحقية والسلالية العنصرية يتجلى عبر أصوات تعلمت بشكل راق خلال سنوات الجمهورية اللاحقة، هؤلاء نالوا بحكم التسويات السياسية وانتمائهم الأسري على مستويات عالية من التعليم والمناصب والمنح بعكس نسبة كبيرة من اليمنيين المعلقين في جبال الجمهورية الخاوية. هؤلاء يدركون جيداً تخلف فكرة الأحقية والولاية لذا يتعاملون بأسلوب براغماتي مع كافة التعاطيات، قديماً وحالياً، هم أكثر المستفيدين من نظام علي عبدالله صالح وهم أيضاً أكثر المستفيدين من نظام الحوثيين اليوم، وظائف وصلاحيات وأمان سياسي وعلاقات تصل لكافة أروقة الدولة، لكنهم أيضاً ينتقدون الحوثي ويتبرأون من نظامه العنصري السلالي الذي لا يمثلهم. مقتضيات التمظهر السياسي والبراغماتي تقتضي ذلك، هم يعرفون جيداً أن البلد في خضم تحولات متسارعة وفكرة البقاء لأي فصيل فكرة غبية، هؤلاء الهاشميون يملكون مرونة عالية في التعاطي السياسي والإعلامي ولديهم الى حد كبير ذكاء ومعرفة بماهية المتغيرات والأحداث، ومع ذلك فهم ورغم كل شيء يخافون من توسع الشقاق والشرخ المجتمعي المتحول مع الوقت إلى نزاع وصراع سيخسف بالجميع، براغماتيتهم تتريث كثيراً في أمور الانحدار نحو المجهول، المجهول الذي سيكلفهم وسلالتهم الثمن الباهظ والقيمة المتأخرة من كل التكاليف.
الشكل الثالث من الهاشميين يسمى الضحايا. هناك ثمن لكل شيء، وثمن الطغيان السلالي يقع على عاتق هذا الشكل الضحية، هؤلاء لا حول لهم ولا قوة، لا أرباح ولا براغماتية ولا مناصب ولا مال ولا علاقات ولا وساطات ولا شيء، هؤلاء مثلهم مثل العاديين من الناس المحصرين ضمن قاعدة اللاإنسان، عليهم ما على الآخرين، هؤلاء فعلياً جزء منخرط ببساطة في المجتمع ويتقاسم مع بقية الشعب ضريبة الكارثة.
آل الجنيد في الصراري فقدوا ما يقارب المائة شخص مع الكثير من الأسرى والجرحى والمفجوعين.
– جُرح لم ولن يندمل !!
هكذا يقول المشردون منهم، قالوها لي في أحد المخيمات في تعز.. فقدوا أرضهم وقُراهم وبيوتهم ومزارعهم وأبقارهم وكل شيء، فقدوا ذلك لأن هناك آخرين تمادوا قليلاً في التفاخر والطغيان.
– لا يزال هناك الكثير من الوجع لم يُحكَ بعد..!! يقول أحدهم.. وجع جدتي العجوز “شمس” ذات العمر الكبير، رفضت ترك منزلها وبقرتها وحولها الصغير يوم وصلت إليها الحرب.. ماتت قهرا على الأطلال.
– لا أحد يستطيع محو هذا الثمن اللعين..
الثمن المتشكل بفعل عنصرية الآخرين وبراغماتية المستفيدين.
هؤلاء الأشخاص أو الأسر يتحملون العاقبة لأنهم الأفقر والأضعف والأبعد بحكم بضعة أشخاص، ليس لهم من حفلة السماء سوى اللقب، يعتبرون أنفسهم ضمن لعنة لا مفر منها سوى إلى الموت.
الشكل الرابع منهم يأتي ضمن التنظيمات الأخرى، التنظيمات المناوئة للحوثي أو المتحالفة مع مناوئي الحوثي. تشكل ذلك الانخراط مع الزمن نتيجة ظروف سياسية كهاشميي الإصلاح، أو ظروف جغرافية كهاشميي الأشراف في مأرب، أو ظروف تاريخية مرتبطة بالمذاهب كهاشميي الصوفيين في تعز والجنوب. هؤلاء وبصورة ما يندرجون ضمن الضحايا الهاشميين في المجتمع. بالفعل استمرت حياتهم وطرقهم السياسية لكنهم عوامل خطر وتهديد بنظر المحيطين بهم، ذلك بالطبع نتاج الحوثية والفئة المؤمنة بالولاية والأحقية والمتفاخرة بها.
هذا الصنف بمثابة الفيروس بالنسبة لمن هو ضمنهم، خصوصاً في حالات النأي بالنفس، نظرة المحيطين بهم مقصورة على أن فيروس العنف حين لا يتخذ طابع الوباء الموجه إلى الأعداء، قد يرتد ويصبح وباءً داخلياً، فيما هو معروف من صراع الأجنحة ضمن العصبية الواحدة. هنا تتشظى العصبية الواحدة إلى عصبيات فرعية متقاتلة (سياسية أو مذهبية) تصل حد التصفيات الدموية كما حدث ويحدث للأشراف في مأرب، هنا أيضاً تنشط أسطورة الفئة الناجية.. الجناح الذي يرى نفسه على حق أو يمتلك العقيدة السياسية أو الدينية الحقة على خلاف الحوثي، والفئة الضالة أو الجناح المخرب والمتآمر والمتواصل مع الحوثيين، الفئة التي يجب تصفيتها للحفاظ على سلامة خط القضية وصواب العقيدة ونقاء الرسالة، وهو ما يؤسس لظهور الاستبداد الذي يبلغ حد الطغيان.