- كتب: محمد ناجي أحمد
إدارة مصير الشخصيات بما يخدم السلطة السياسية وسلطة القوى الاجتماعية المهيمنة :
تحضر الشخصية السياسية الممثلة للحزب الحاكم دون تحديد ملامحها وهويتها الشخصية . يصدر توجيهاته “بتنظيم مظاهرتين ، الأولى مؤيدة للشيخ بكري تتجه إلى قسم الشرطة في قريتنا وتطالب بالإفراج عنه ،والثانية تتجه إلى مقر النيابة في الجروم وتطالب بتسليمه” ص46.
في مزاحمة وتدافع للمشاعر المتناقضة ، تنتاب ( مطهر فضل ) رغبات دفينة تأتيه من جذوره ، فتظهر رغباته البدائية المتوحشة ، منتقلة من لا وعيه إلى وعيه ، أو من ذاكرته المسكوت عنها إلى ذاكرته الحيَّة :”كانت تدور في ذهني خواطر غريبة ، مثلا تمنيت لو أن زمن العبودية يعود وأفعل كأجدادي الشيوخ الذين إذا أعجبتهم بنت خطفوها عنوة وجعلوها جارية”ص48. هو في رغباته الدفينة يريد أن يكون الشيخ بكري حسن ، من حيث امتلاكه للنساء ، لهذا يمارس الجنس مع القاصرتين منى وخاتمة اللتين كانتا تحت سلطة وملكية الشيخ بكري حسن، ويغتصب “جليلة ” من حيث تحريفه لحواره معها ووقوفه مع وحشية الشيخ، ولهذا تقول له “جليلة” أنت اغتصبتني مرة أخرى بتحريفك للحقيقة!
في المظاهرات المعبرة عن شارع لا عن رأي عام ، والفارق أن الشارع يتحرك باندفاعية القطيع ، والرأي العام انعكاس لوعي مدني ، الشارع يتم التحكم به وتحريكه بذات السيطرة التي تعكسها المجتمعات الأهلية ذات الوجاهات المشيخية- في هذه المظاهرات المتعارضة في الظاهر والمتحكم بها في الباطن هيجان القطيع ضد مصالحه ” وكأنهم أطفال يحطمون ألعابهم للاستمتاع . كان وضعا غريبا . فهؤلاء الناس الذين يشعرون بضغينة خفية ضد الدولة ، ها هم تتاح لهم الفرصة ، وبإيعاز من الدولة نفسها ، للتنفيس عن غضبهم المكبوت وإذلالهم المتراكم باستهداف أحد رموز هذه الدولة ، والمؤسسة الأكثر تمثيلا لها في منطقتهم.” ص50.
لدى المؤلف قدرة على استبطان الأحداث وتحليلها بشكل يبدو عفويا على لسان ( مطهر فضل) وقدرة سردية في تقديم صورة شاملة عن طبيعة وتفاصيل الجدل والحوار والنقاش في مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفايس بوك ، بما يقدم للقارئ تصورا دقيقا لعقلية المجتمع حينما تنعكس بتناقضاتها وسذاجتها وثقافة القطيع المسيطرة عليها…
حين يصعد ( مطهر فضل) إلى داخل سيارة الشيخ ( بكري حسن) تطفو مشاعره الطبقية ومعيشته الفقيرة إلى السطح ” كانت السيارة من نوع ميتسو بيشي باجيرو ذات الدفع الرباعي حمراء اللون آخر موديل…وأقنعت نفسي بأن هذه هي رائحة الثراء ، وربطتها برائحة المليارديرات، وتخيلت القصور الفخمة التي يعيشون فيها ، والسيارات الجديدة التي تعبق دائما بروائح كهذه ، ولكن أنفي الذي له ميول ماركسيَّة لم يسترخ ولا اقتنع بخواطري.”ص64.
تميُّز الوصف في التقاط حفريات وجغرافية الوجوه بسطحها وأعماقها ، فحين يتأمل (مطهر فضل) (جليلة)بعد أن سألته ” هل أخرجت كلامي في الجريدة ؟ ثم أراحت رأسها على خدها وسرحت بخيالها ، يقول ” تأملتها مجددا في ضوء النهار … حقا إنها بنت جميلة جدا ، جمالها لم تقع عيناي على نظير له في أي مكان . بشرتها ذهبية فاتحة كالتفاح الصعدي ، وجهها مُدوَّر كالبدر ، وعيناها مسطحتان كعيني السمكة ، وحدقتاها عسليتان تقطران عذوبة وحلاوة ، رموشها سوداء طويلة ، خداها مستويان يفصل بينهما أنف نحيل ، فمها وردي مزموم يوحي بالجد ّ وعلو الهمة ، حاجباها هلاليّان فاحما السواد ، وجفنان واسعان يضفيان عليها سمتا جميلا ، شعرها غزير أسود، ليس مسترسلا ولا جعدا ، ولكنه حريري الملمس ، خصلاته ملتفة حول نفسها ، ولذلك هي لا تضفره ، بل تتركه ينمو على سجيته ، متكاثفا ومتداخلا في بعضه كشجيرات بريّة “ص31.
في وصفه السابق نجد تحيز ( مطهر فضل) من خلال تسليطه ضوءً وصفيا على ملامح وسمات تجذب القارئ وتجعله متعاطفا مع (جليلة) ضحية الاغتصاب ، في المقابل نجد السارد الداخلي يقدم لنا (بورتريه) مناقضا من حيث الموقف الجمالي ، وذلك حين يصف المُغْتَصِب ( الشيخ بكري حسن مقبل) وهو في الحجز بقسم الشرطة :”دخل الشيخ بكري حسن دون أصفاد، ولم يجرؤ أي جندي على الإمساك به من ذراعه . متوسط القامة ، قوي البنية ، حليق الذقن وشارباه رفيعان. عيناه السوداوان برَّاقتان وبياضهما أحمر يكاد ينز دما ، حاجباه خفيفان ومعقوفان عند طرفيهما إلى الأسفل. في وسط جبينه شجة تبدو كخرطوم فيل .شعره أسود تخالطه شعيرات بيض ، خشن كصوف الغنم بسبب إهماله الاعتناء به، ولو أدخل أحدهم أصابعه فيه لما تمكن من إخراجها بسهولة، ملتو ومعقد كشبكة صيد ملفوفة على عجل ومعلقة بمسمار. كان يرتدي مئزرا أبيض وصديرية سوداء اللون، وعلى كتفيه فرد شالا أحمر مُقَصّبا بخيوط ذهبية، ويحزم خصره بخنجر . وكان يقف بصلف وينظر من حوله بازدراء . انتبهت إلى أنه ما زال محتفظا بمسدسه الشخصي، حيث يبدو متدليا من حزامه، وعلى ظاهر الجراب ست رصاصات” ص32.
ما يكتبه ( مطهر فضل) من مقالات في صحيفة (الشعب) التي يرأس تحريرها (رياض الكياد) ليست سوى “غائط سياسي” من وجهة قناعته الداخلية ، والكتاب المهتمون بالشأن العام يشكلون “مدفعية ثقيلة” بتنوع نغماتهم وحدتها ، فهم يُجْمِعون حول حقيقة واحدة ، مصلحة الحاكم التي يسمونها ” مصلحة الوطن”
وكما يدير الحزب الحاكم المظاهرات يوزع التوجيهات والمهام بشكل تبدو مختلفة ومتعارضة، لكنها من حيث الوظيفة تخدم الحاكم ، فلا فرق بين (جريدة الشعب) ورئيس تحريرها ( رياض الكياد) وبين جريدة (النضال) ورئيس تحريرها (غالب زبيطة) “المدسوس على المعارضة” والذ ي حل محل (رياض الكياد) في رئاسة جريدة (الشعب) حين يصبح الأخير وزيرا. فلا (النضال) فيها نضال من موقع اجتماعي وإنما قشور أوجاع تخدم الحاكم ، ولا جريدة (الشعب) معبرة عن الشعب، فهي لسان حال القوى الاجتماعية التي تساند ويساندها الحاكم!
مسألة العفة والشرف وخصوصية المجتمع والتقاليد والدين والتكفير- سلاح في خدمة قوى التسلط في الداخل والخارج…
الصحافة المأجورة والجنس مع الصغيرات وقيم الزيف والارتزاق التي تحل محل الصحافة الجادة والملتزمة بقيم الصدق والانتماء – هي السائد والمألوف.
لم يعد هناك يسار وإنما صحف حكومية و(دكاكين مجتمع مدني) وصحافة أهلية تنطلق من موقف عدائي لليسار ، الذي في غيابه وتغييبه القهري عن الساحة انتقلت التناقضات داخل البنية الحاكمة وقواها الاجتماعية !
حين يصف (مطهر فضل) ضحايا الاغتصاب من القاصرات ما بين سن الثامنة إلى الرابعة عشر نجد انتماءه لهن وتعاطفه معهن بانحياز لغته الوصفية تجاههن ، وإن عمل حوارات صحفية ضدهن بحسب طلب رئيس تحرير صحيفة (الشعب) (رياض الكياد) الذي لم يأت لقبه(الكياد) اعتباطا بل دالا على طبيعة المرحلة ووظيفة الصحفي والصحافة!
يتحدث مطهر فضل عن (منى ) فيقول ” جلستُ خلف المقود وفردتُ جريدة متظاهرا بالقراءة ، كانت دموعي تنساب من تلقاء نفسها ، كنت أشعر بالقهر في رنة كلماتها ، وبمقدار الألم المخبأ في جفنيها العلويّين ، معاناة خمس سنوات من الاغتصاب والإذلال …طفلة في زهوة العمر تتعرض لمكابدة أهوال تعجز قلوب الكبار عن تحمّلها ن وفوق هذا عليها أن تبتلع عذابها والظلم الذي حاق بها صامتة دون أن تجرؤ على الشكوى لأحد” ص88.
خلال عقد التسعينيات وما بعده كانت منابر المساجد مدفعية ثقيلة في وجه المعارضين للسلطة، تكفيرا وتشهيرا وفجورا بالخصومة:
” تسرب صوت خطيب الجمعة من جامع مجاور …ذكر سلام مهدي بالسم ، وقال إنها كافرة مرتدة عن الإسلام ودمها مباح، رغم أنني أكرهها وأتمنى لها الموت ، عندما سمعت الخطيب يُصْدر عليها هذا الحكم الرهيب انخلع قلبي وامتلأ بالشفقة عليها، وتصوّرت حالتها وهي تسمع أن مئات الجوامع في اليمن قد أعلنتها كافرة.”ص95.
تظل المشاعر المتعارضة لدى (مطهر فضل) سمة ملازمة له في صراع القيم . انتماؤه لإنسانيته من ناحية ومتطلبات الحياة في مجتمع استهلاكي من ناحية أخرى . قيمة الإنسان بما يملك لا بما يؤمن من انتماء لغالبية الناس.
الجميع داخل الرواية قطع شطرنج تحركها توجيهات من يضعون الاستراتيجيات ويديرون الأزمات، بما يجعل الجميع قطعا شطرنج مملوكة للسلطة السياسية وسلطة القوى المهمينة في المجتمع، وحده (سعد موسى ) الجندي المهمش يصنع موقفا خارج زمن البطولات فتتم تصفيته ، وينجرف سامي في خصومته ضد الشيخ فتأخذ تصفيته طابع الانتقام الشخصي ، حين أقسم الشيخ بكري حسن ثلاثا بأنه سيقتله ، ليعيش سامي رعب التهديد ثم قسوة التمثيل بجثته!
يقول (رياض الكياد) لمطهر فضل :” لا تصرخ في وجهي .. لست أنا من يصنع الاستراتيجيات ..أنا مجرد عبد مأمور.. من تظن أنه أمر بمكافأتك بالبنت الحلوة منى؟”ص97.
يتم استخدام الفتى (عطا المساعدي) كبش فداء ليلصقوا عليه تهمة اغتصاب الطفلة (جليلة) حماية للشيخ (بكري حسن) ثم بعد ذلك يطلقون سراحه ويبرؤنه من التهمة الملفقة ضده مقابل انخراط قبيلته في حزب الحاكم:” ثلاثة آلاف رجل وامرأة من قبيلة بني مساع أعلنوا انضمامهم أمس إلى حزبنا”ص151.
في حيلة نفسية يحاول (مطهر فضل) التنصل من ارتمائه وانخراطه بوقا لقيم الزيف و المجتمع الاستهلاكي- بتحْميل زوجته (حورية) مسؤولية سقوطه في هذا القاع، علّه يخفف من تأنيب الضمير “..وبدأت أفكر جديا في الطلاق . امرأة مبذرة . متلافة ، تصرف النقود بسفه ، دفعتني مرغما إلى تلويث يديّ وكفّ ضميري وفوق هذا تعاملني باحتقار وتشمئز من أفعالي…”ص124.