- كتب: محمد ناجي أحمد
في روايته (أرض المؤامرات السعيدة )لوجدي الأهدل –نجد شخصيات الرواية حاملة للأفكار في بناء أيديولوجي للرواية ،وتكامل للقيم التي تدار كقطع شطرنج تحل في مربعات قيمية محكمة التوجيه والإدارة لأزماتها.
للاسترجاعات النفسية وظيفة بنائية محورية في هذه الرواية ،تتضح من خلالها القيم المصطرعة للشخصية المحورية في هذا العمل(مطهر فضل) تزوده بطاقة سردية ووصفية بنائية، ينصهر فيها الزمن ،وتمتلئ الفراغات السردية ،وتتحكم بحركة السرد واندفاعه، وتعين السارد الخارجي على بناء شخصيات الرواية ،وإمدادها بالمعلومات من حيث ماضي الشخصية وتكوينها وعلاقاتها .
ولهذا يصبح الارتداد في الزمن إلى الماضي إضاءة للحاضر من خلال ما تقدمه هذه العودة من تخليق للأحداث والشخصيات ؛ أي أن العودة جريان للماضي في داخل الحاضر ،وبالتالي فالعودة وظيفة سردية بنائية للرواية . كما يرى ذلك الدكتور مصطفى ساجد الراوي، في كتابه (بناء الشخصية في الرواية-الطبعة الأولى -2003-مركز عبادي للدرسات والنشر.
تبدأ رواية (أرض المؤامرات السعيدة ) بالسرد الاسترجاعي الذي يساعد القارئ في التعرف على شخصيات الرواية ،ورصف جوانب الشخصية المحورية في هذا العمل (مطهر فضل) وقيمه المصطرعة …
فمطهر فضل ليس بخيلا في الاستهلاك ولكنه بحسب تعبيره “ولكن نفسي لا ترتاح لهذا الإسراف في تكديس الطعام على مائدتنا ، ينتابني شيء من تأنيب الضمير.”ص9.
في تباين بين قيمه التي عاش فيها وقيم زوجته (حورية) التي تزوجته بسبب تفوقه ،وموافقة والدها عليه زوجا لابنته شرط أن يكون “رجل دولة” لا أن يُضيِّع نفسه كأبيه!
مطهر فضل ترتصف داخله قيم سلوكية وثقافية متعددة ، منها ما ينتمي للخرافة والعقل الجمعي للقبيلة “لم يسبق لي أبدا أن سافرت يوم أربعاء ، إنه يوم نحس ،والقبائل تتجنب الحرب فيه خوفا من الهزيمة…”وهذا مدخل يضيء لنا ما ستكون عليه خاتمة المسار السردي لهذه الرواية ومآلاتها التراجيدية …
(مطهر فضل) يكره السفر بالحافلات لأنها “معدَّة خصيصا لحفلات القيء الجماعية”ص12.
تنتابه مشاعر البرجوازي الذي يريد أن يتخلص نشأته الفقيرة ، لهذا يركب سيارة نقل صغيرة بيجو(peugeot ) ويأخذ المقعد الأمامي الذي يتسع لنفرين ، ليسافر إلى الحديدة ، في مهمة صحفية يؤدي فيها وظيفة تزييف الحقائق والوقائع ،والاعتياش من الأموال التي تمنح له مقابل وقوفه مع مغتصبي الصغيرات واستعبادهن سواء بشكل سافر أو بعقود زواج سياحي!
ترتص القيم المتناقضة داخل شخصية مطهر فضل ، في محاولة منه أن يغاير طريق أبيه اليساري ،والمناضل الشيوعي ،الذي أهمل أسرته بحثا عن حب الناس والصالح العام بحسب رؤية مطهر لأبيه، الذي تركهم يتضورون جوعا بحثا عن بطولته النضالية …
في رؤيته للمال يقول ” نعم إن المال هو الذي يحفظ للإنسان إنسانيته لكنني ،على الرغم من محاولاتي المستميتة للتخلص من عقد الماضي . ومن التربية التي لُقِنْتُها في صغري ، فإنني ما زلت أستحي أن يراني أحد رفاق والدي اليساريين وأنا أتمتع بجلسة ملوكية ، وأتصرف كبرجوازي معتق.”ص13.
وعن موقفه السلبي تجاه الأب اليساري ، يقول :” دخل أبي المعتقل عدة مرات ، وكان إذا أفرج عنه لا يلبث إلاَّ قليلا حتى يعود إليه ، لأنه لم يتب أبدا عن العمل السري ، ولم يأبه مطلقا بأي طريقة ستدبر عائلته طعامها في غيابه، ما كان يشغل باله هو أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه ، وان يغدو بطلا في نظر حزبه ورفاقه ، ولقد نال مبتغاه هذا الأب الأناني ، ولكن على حسابنا أنا وإخوتي الستة، نال المجد على حساب فقرنا وعرينا ومعاناة شظف العيش ، أمّا أمي فأقسم إنها ماتت كمدا بسببه ولم تتكلم.”ص14.
مفارقة الأب المنتمي سياسيا لليسار وإهماله لعائلته ،وتخلي الابن عن قيم النضال من أجل الناس، واختياره للسير في طريق مصالحه الشخصية على حساب آلام الشرائح المستضعفة في المجتمع، وأوجاع الفقراء واستغلال القاصرات !
ولهذا يستمر مطهر فضل في محاكمة اليسار من خلال إدانته لأبيه الذي وصفه بـ”هذا الأب الأناني…”
لكن الأب كقيم نضالية يظل كامنا في تكوين الابن ، حتى في السحنة وقسمات الوجه ،ففي جذوره الجينية تتجاور المشاعر الانتمائية “راحت عيناي تتدحرجان على قسمات وجهي …لقد ورثت عن أمي الفلاحة بشرة بلون تراب الحقول ، ومسحة نورانية توحي بالسكينة وسمو النفس. ومن أبي ورثت ملامح الوجه النبيل الدال على عراقة الأصل…”
يستبدل (مطهر فضل) قيم أبيه اليسارية بقيم الاستهلاك، أنت ما تستهلكه ” اعتبارات غبية ووهمية منعتني من اقتناء سيارة رشيقة من أحدث الموديلات. كنت أخشى من القيل والقال، وأن أتهم بأنني بدلت جلدي. حساسيتي المفرطة من أن تظهر آثار النعمة علي لا معنى لها ، والدي الشيوعي المتزمت تُوفَي ، والمجتمع تغيرت أفكاره كثيرا، ولم يعد أحد يبالي إن كنت في المعارضة أو في السلطة . في الماضي كان أي شخص يريد أن يظهر بمظهر البطل يذهب إلى المعارضة . وكان المجتمع يتواطأ معه ويحوله إلى نجم … أمّا اليوم فإن المجتمع قد ملَّ من هذه اللعبة السمجة. وأصبحت هناك قناعة عامة يرددها الجميع مفادها :”الحق نفسك واعثر على موطئ قدم لك في السلطة.”. وهذه “القناعة العامة “يراها السارد الداخلي “نضج المجتمع ، والبطولة تتغير من عصر لآخر ، لذا أنا بطل بمقاييس هذا العصر” ص15.
بطل بمقاييس هذا العصر ” صحافي موثوق به من طرف الدولة” ص20.
يُحَوِّل الضحية في تقاريره وتغطياته وحواراته الصحفية إلى جلاد والجلاد إلى ضحية !كما فعل بخصوص “جليلة” ذات الثمان سنوات التي اغتصبها الشيخ بكري حسن مقبل، حين عمل معها(مطهر فضل) حوارا ثم منتجه وحرف أقوالها والتقط لها صورة بخمار ومن زاوية حرص على أن تبدو فيها أكبر من سنها حتى لا يتعاطف معها المجتمع، وأنها وجَدَّهَا يريدان أن يلصقا تهمة الاغتصاب بالشيخ بكري حسن مقبل!
انتهت هذه القضية في آخر الرواية بحكم يعكس توحش السلطة ، سلطة المجتمع الأبوي والسلطة السياسية المعبرة عنه، حين حكم القاضي بأنّ من قام بعملية الاغتصاب هي الطفلة (جليلة) ذات الثمان سنوات، وأن التقرير الطبي أثبت وجود تمزقات في العضو الذكري للشيخ (بكري حسن) ناتجة عن اغتصاب (جليلة) له !
لقد طلب منه رب عمله رئيس تحرير جريدة (الشعب)(رياض الكياد) أن يعمل على منتجة الحوار الذي أجراه مع (جليلة) بما يؤدي إلى أن توجيه التهمة إلى فتى صغير غير الشيخ (بكري حسن).
“طلب مني بشكل صريح أن أمنتج الحوار بحيث يبدو الفاعل مجهولا ، ثم أرسله بأقصى سرعة إلى الصحيفة . شدد عليَّ بأن الحوار الذي سننشره لا بد من أن يؤدي إلى تغيير الصورة لمصلحة الشيخ ، وانَّ مهمتنا التي تقتضيها مصلحة الوطن هي أن ينقلب الرأي العام إلى النقيض ، ويتعاطف مع الشيخ بوصفه متهما ظلما وزورا …”ص25.
السلطة السياسية تتعاضد مع سلطة المجتمع الأبوي ، فهي منه وحامية له ، إنها في المحصلة سلطة الطبقة الاجتماعية المهيمنة :” شعرت الحكومة في صنعاء بأن هناك مؤامرة مدبرة ضد أحد رجالات حزبها المخلصين فبدأت تتحرك. كان دليل السلطة على وجود مؤامرة هو السرعة التي تعاملت بها المعارضة مع الحادثة ، وتضخيمها إعلاميا لمصلحتها ، والزج بشكل مُغرض باسم الحزب الحاكم في الموضوع”ص26.
اليسار في هذه الرواية لا يحضر إلاَّ بصفته ماض لم يعد له وجود سوى حضوره كجريدة هامشية اسمها (الثوري)، من خلال خبر نشرته عن مقتل الجندي في قسم الشرطة ، ترد صفاته في الرواية بصفته “جندي عملاق أسود البشرة، من طائفة الأخدام، مخيف الطلعة”ص27.قام بواجبه كجندي يطبق القانون ، فواجه عنف الشيخ بكري حسن بعنف القانون وحزمه ،حين وجه للشيخ المتمرد على القانون ،والذي رفع سلاحه الشخصي هو ومرافقيه ،وأراد أن يخرج من الحجز بقوة السلاح ، فما كان من العقيد أحمد فتيني إلاَّ أن أشار إلى الجندي بأن سحبه إلى الخلف ،ليظهر الجندي على سطح القسم موجها رشاشا مضادا للطائرات ، وبصوت مدو ترتجف منه الأبدان صرخ فيهم آمرا “اطرحوا السلاح ..نفذوا الأمر.. بسرعة”ص35.
وكانت نهاية الجندي والقانون بأن وجد مقتولا وممثلا بجسده ، ولم يجد خبر موته سوى حيز في صحيفة “الثوري ” نعتوه بالرفيق.
باستثناء شخصية هذا الجندي (سعد موسى) الذي كان حضوره هامشيا ، وكذلك مدير القسم العقيد أحمد فتيني-حنينا عارضا وهامشيا لدولة القانون ، بالرغم من أن القانون من صنع الطبقة المهيمنة، لكنها لا ترى فيه سوى قيد على المستضعفين لا عليها- فإن بقية شخصيات هذه الرواية ،سواء مطهر فضل والحقوقية سلام مهدي والشيخ بكري حسن ورياض الكياد رئيس تحرير جريدة (الشعب ) وغالب زبيطه رئيس تحرير جريدة (النضال) وقاسم الطحان رئيس تحرير جريدة المصابيح، المحامي حمُّود شنطة ، بل وحتى الصحفي سامي قاسم ،الذي يعمل مراسلا في جريد “الأيام” العدنية ،والذي قُتِل بسبب تحديه للشيخ بكري حسن ،وتم التمثيل بجثته، جميعهم لا يعبرون عن موقف اجتماعي وسياسي مغاير لجوهر السلطة الحاكمة ،بل يختلفون في تفاصيل ، وكأنهم قطع شطرنج ، بيد من يدير الأزمات لديمومة بقاء السلطة والحاكم!
أنهم لا يختلفون في موقعهم الاجتماعي ،وإنما يتنافسون في التعبير عن تناقضات تنطلق من ذات الموقع الاجتماعي والسياسي. كأن يكون الصراع بين (دكاكين المجتمع المدني) المعبرة عن مموليها في الغرب، وبين السلطة الحاكمة المدعومة من أنظمة الغرب!
هو صراع داخل بنية واحدة وقوى تنطلق من موقف اجتماعي واحد ، فالقوى المسحوقة ليست منظمة في حزب يناضل من أجلها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ووجوديا ، وإنما يتم استثمار أوجاع وآلام “جليلة ومنى ومحسنة وخاتمة ” الخ، في لعبة إدارة الأزمات !