- ضياف البراق
إنني باستمرار أخوض معركةً أشد مرارةً، مع نفسي الكئيبة ومع محيطي المخيف في آن؛ وهذا بالضرورة كفاح عظيم من أجل الحب لا غير. لكن، انهزاميتي الحالية في ميدان الحب، وبسبب حبي نفسه، تزداد تفاقمًا وحِدّةً واتّساعًا مع رداءة هذه الأيام. دائمًا تمرُّ الأيام من أمامي، قبيحةً، غير مبالية بي، إطلاقًا. أما أنا فلا أعبر من أمامها بنفس الطريقة المُتكبِّرة، القاسية. إنّ قلبي المتصوِّف المتواضع، المُحِب، عادةً لا يسمح لي بممارسة التكبُّر المشين. إنني أبغض نزعة الانتقام، ولذلك لست مَن يرد اللطمة باللطمة في معترك الحياة؛ إيمانًا منّي بعظمة الحب الذي يرفض العنف بجميع أشكاله رفضًا مُطْلقًا، ولا حب دون تسامح. تذهب أكثر أوقاتي سدًى، أو عبثًا، لأنها خالية من مشاعر الحب. والحب ليس سهلًا، فهو صعب جدًّا لأنه غير محدود، وأمّا أولئك الذين لا يُحِبّون كثيرًا، فيطول عمرهم أكثر، وأمّا المُحِبّون العِظام، أو الصادقون مع الحب أكثر من اللازم، فهؤلاء عادةً يرحلون سريعًا عن وجه العالم، أيْ قبل الأوان بكثير. والحقيقة هنا، هي أنّ الحب يُنهِك كيانَ الإنسان المُحِب حقًا، يملأه جراحات واضطرابات نفسية خطيرة، خاصةً في المجتمعات الجامدة التي لا تعرف ما الحب، ولا تشعر به إلا في مستواه الأدنى، وبالتالي، فإنّ مثل هذه المجتمعات الهَرِمَة، والقاسية، لا تترك ولا حتى مساحةً بسيطة أو صغيرة أمام المحبين؛ ليعبِّروا من خلالها عن حبهم بشكلٍ أجمل وأوسع. بل إنها، بالتعبير الأصح، لا تدع لهؤلاء الأنقياء مجالًا لنشر رسالتهم الكونية العظيمة: المحبة. هنا سأعترف بسوءٍ يخصّني شخصيًا: حتى الآن لستُ نقيًا، إنسانيًا، إلى مستوى نقاء الحب العظيم، إذ إنّ نقائي الإنساني ما زال ينمو شيئًا فشيئًا، وأحيانًا يتراجع مهزومًا للوراء. طبعًا وفي الوقت الراهن.. فأنا عاجزٌ أتمَّ العجز عن القيام بواجب الحب، ولا عن تلقي الحب أيضًا، وها هي روحي خالية كثيرًا من جميع المشاعر الدالة على أن هناك حياة حقيقية حولي. عمومًا، كنتُ قد آمنتُ بالحبِّ حتى النخاع، وما زلتُ مؤمنًا به، بلا شرطٍ ولا قيد، ومع كل ذلك، فلمْ يسعدني الحبُّ ولا مَرّةً، كما كنتُ أرجو منه، ولعل هذا خطئي الحقيقي الجميل! أجل، أضناني الحبُّ على نحو متواصل، وأغرقني في بحيرة كبيرة من الخذلانات والانكسارات، ولكني، صِدقًا، لم أخنه ولم أيأس منه أبدًا، ولن أفعل ذلك طول حياتي. إنني لستُ أتعامل بالخيانة الفظيعة لا مع أحد ولا مع أي شيء. صحيح أن لي حق المقاومة في الحياة، لكن شرط ألا أتجاوز أوامر ونواهي ضميري، أي حدود العدل. لكن هذا لا يعني أبدًا أنني في غنًى تام عن الخيانة. مثلًا: مخالفة مساوئ الماضي، أو إدانتها، فهذه خيانة طبعًا. ومخالفة المألوف، أو عدم اجترار القديم، كذلك هذه خيانة. وباختصار، مخالفة كل ما يعرقل نزعة الإنسان التقدمية، فإني أُسمّيها «خيانة مقدَّسة» لا بد منها، لأنّ “الحب العظيم ضد الثبات والتحجّر” كما يقول شاعرنا العظيم، نزار قباني، وهو بالفعل قولٌ صحيح جدّا. “إني لا أؤمن في حب لا يحمل نَزَق الثوار”، وأنا كذلك يا عم نزار. طبعًا جميع الخيانات السابقة، فإنها بالتأكيد جديرةٌ بشتى التبجيلات، ذلك لأنها تُضيء لنا آفاقَ الحياة، وتجعل بقاءنا الإنساني يزدهر على نحو أفضل. وأي شيء عبثي يعترض نمو الحياة، أو يضايق جمالها بسوء، فهذا يجب زواله من حياتنا، عاجلًا أم آجلًا. إنّ الكراهية، بجميع معانيها، وأنواعها، هي لأخبث عدوان تدميري يستهدف الحياة الإنسانية ويهدِّدها بجميع معانيها. إذَنْ، الحب هو أشرف مخالفة في هذا العالم. أيْ، هو مخالفة كل ما هو قبيح أو همجي دون استخدام العنف أو الإفساد. والحب، بمعنى آخر، أعمق.. كما أفهم، هو التفرُّد المُتسامي الخلّاق، ولن يكون هناك أي تقدم إيجابي في عالم الحياة إذا انعدم هذا التفرد الأهمّ.. فالحب أيضًا إبداع، والحب الإبداعي شرط أساس ضروري لتحريك ودفع حركيّة الحضارة قُدُمًا، نحو مزيدٍ من الضوء والازدهار. ومن زاوية مهمة، فالحب هو ازدهار الضمير الإنساني. ولعلنا جميعًا نعلم أنّ الحياة لا تزدهر البتة ما لم يزدهر أولًا ضمير الإنسان. لهذا السبب بالضبط، كان لزامًا من جهتي أن أحني قامتي كلها لجلال الحب وحده، مؤمنًا به بعمقٍ غير محدود، وها أنا رغم المتاعب أحمل الحب إلى العالم بأكمله، وبكل إخلاص، فقط من أجل علو كرامة كل البشر التي لا تُرفَع إطلاقًا إلا عن طريق الحب. إنني الآن هشٌّ بالكامل بفعل تمسُّكي الشديد بالحب. وغالباً يزعزعني الحبُّ، داخليًا، أو يذيقني المرارات، لكن هذه الزعزعة الطبيعية هي التي تزيدني استنارةً باطنية رائعة واعية بأهمية الحياة. فالحب إبحارٌ كفاحيّ، وتنويري، وإخائي، وجمالي بلا حد، وسط العواصف الظلامية العاتية، وضدها، دون ابتذال أو هروب أو يأس. إنّ قلب المُحِب الحقيقي لا ينحني إلا للجمال فحسب، ولا يتواطأ مع مظاهر العبودية وسياسات الاستعباد على الإطلاق. لا حرية لي سوى هذا الحب. وعلى نهج ابن عربي في الحب، فإنّ “الحب ديني وإيماني”، وهذا بالطبع يكفيني لأعيش حياتي بشرف. والعظماء عندي، هم الذين يبدأون مشوار حياتهم باسم الحب، ويموتون حُبًّا، على درب الحب وحده.