- عمار الأصبحي
في بلادٍ طوى الليل شوارعها وأزقتها العطنة، تكدس فيها العنف بأشكال
عديدة ملغماً كل الأشياء.. من الأمكنة.. الأساس، إلى ركائز المجتمع.. الثقافة.. حتى
العقل، كان “سعيد” (هنا)!
كعادته غير أبه، مأمولاً .. يحاول جاهداً تكريس وقته في البحث عن أي
عمل يشغله عما يحصل،
ولأنه “سعيد”؛ يبحث عن سعادة في عمق البؤس والغياب، ظل متشبثاً
بعلاقات واسعة وصلات عديدة، فكانت الزيارات زيارات الأهل.. الأصدقاء…خياره المتاح للهروب
من الضجر اليومي وكسرة حدة الرتابة المطبقة، يوم هنا ويوم هناك..
…
في يوم من الأيام قرر سعيد زيارة أحد الأقرباء، والذي يبعد عنه بمسافة
ليست بعيدة كما أنها ليست قريبة أيضاً..
لقد قرر إذاً.. مصطحباً زوجته وطفلته الوحيدة التي لم تبلغ بعد عامها
الثالث،
ومضى يختلط بالجهات والشوارع المثيرة للحماس، الممتلئة بكثافة صاخبة
وضجة متدافعة بلا مبالاة.. جعلتها دوماً على التماس مستمر مع الموت القريب..
يوزع نظراته في كل مكان، في الشوارع المتصدعة.. في البيوت المجروحة،
في الأزقة والمداخل الملتوية.. محدقاً في بقايا مدينة متناثرة.. ساكناً بخشوع وبصبرٍ
بالغ .. حتى وصل،
ووصل سعيد، وتم استقباله بحميمية صلة القرابة الدافئة ببعدها المكاني..
وبدأ يتحدث ويتساءل، عن أخبار الأهل والقرية، لتتأرجح مشاعره بين قليل
من الفرح وكثير من الحزن..
لكنه، ظل سعيداً بالطبع، بمرور الوقت بالحضور يسأل ويجيب ويستمع،
والألفة تغشى الجميع هناك ..
تداخل الحديث الودي وتشعّب، حتى شدّ أحدهم أنتباههم، بتقرير كلل
المكان بالصمت والرعب؛ ضحايا الألغام التي زرعتها الميليشيا خلال الثلاث السنوات الماضية
، معلومات أكدت أن العيش على هذه الرقعة غدا سيراً على حقول ألغام بلا خرائط !
ليتواصل حديثهم من هنا، امتداداً لتلك المآسي، وتتوالى القصص
والحكايات عن الضحايا الأبرياء..
ويسترسلون في النقاش، الحرب ومآلاتها الكارثية، الميليشيا .. سلطة
الغفلة.. صراع
مراكز القوى، التدخل الخارجي والمستقبل.. فيحللون ويحلحلون الواقع كما تسمح لهم
بذلك مداركهم..
…..
كان الوقت يمر سريعاً، حيث والليل قد بدأ يشعل مصابيحه في الجهات..
لذا، وعلى الرغم من إلحاح الجميع له بالبقاء.. أصر على المغادرة،
مؤكداً لهم _كالعادة_ استمرار التواصل..
زوجته كانت في الداخل.. أشار إليها بالاستعداد للعودة إلى البيت، ثم
خرج بحثاً عن تاكسي لتنقلهم..
خرج سعيد .. وأصداء الحديث يلقي بغمامته عليه؛ خواطر وحقائق مرعبة
تجول في ذهنه..
تاه في شوارع راسه، متحسراً كيف أن العيش هنا صار انتحاراً لا
طوعياً.. وهكذا..
سعيد لم يعد سعيداً بالمطلق()
….
الزوجة تتذكر بأنها منتظرة منذ ثلاث ساعات أو أكثر، يضطرب داخلها ..
تنغمس في متاهات الخارج واحتمالات تأخره والعودة، ما الأمر ؟!
يشتد القلق.. موقظاً النفس المضطربة، فتحتضن طفلتها وتلتف حولها؛ كمن
تريد اعادتها إلى بطنها، وتهم بالخروج…
يستشعر أبن عمها قلقها ، ويندفع مسرعاً نحو الباب يجرجر قدمين حافيتين..
يتوزع في الجهات، تلفه ظلمة الليل التي تسربل بها المكان، يدور ويدور..
بإصرار يحثه على المواصلة.. حتى أنهكه التعب، وبدا مستسلماً لخيوط
متينة تشده الى مكان ما، حيث وجد قدميه تحملانه لا ارادياً ، نحو .. نعم، نحو مكان
مفتوح.. لا اشارة فيه أو حواجز مانعة ، ولا حتى إنارة.. كأنما موت كثيف قد أستباح
المكان أو شيء من حرب
..
يتجشأ شتائمه وغضبه، يوجه الضوء في الجهات وقلبه يدق بعنف ،
وإذا به يجد شيئاً هناك..
إنه…
جسد، نعم جسد قد تطايرت أشلاءه .. ياااااااااااااااااالله
يقترب يدقق في النظر فيما تبقى منه.. عينان تحملقان وفماً مفتوحاً؛
كأنه كان يود أن يلقي سؤالاً، أو يقول شيئاً ما.. أغرورقت عيناه بالدموع، وأخذ يتلفت..
محاولاً سحب نفسه إلى الخلف..
بينما الأرض من حوله، تمتد ملطخة بالدماء، يلفها الموت وصمت المقابر !
- رئيس التحرير