- بقلم: عبدالباري طاهر

الإهداء إلى المفكر مصطفى البرغوثي، الأمين العام للمبادرة الوطنية — الضمير الحي واليقظ للقضية الفلسطينية.
لأول مرة في التاريخ يخوض الجيش الإسرائيلي حرباً تستمر حوليْن كاملين؛ حرب 48، وهي مع سبع دول عربية، لم تستمر إلا ستة أشهر وثلاثة أسابيع ويومين.
أما حرب 1967، وهي مع أهم الجيوش العربية: مصر وسوريا والأردن، ومساندة العراق، فتسمى حرب الأيام الستة أو حرب الستة ساعات، وحرب السادس من أكتوبر 1973، وبعد أن أعاد الزعيم العربي جمال عبد الناصر بناء الجيش المصري، وإلى جانب الجيش السوري وتدخل الجيش العراقي، فلم تستمر أكثر من عشرين يومًا، وانتهت بكارثة أدت إلى استعادة الاستيلاء الكامل على الجولان ووصول الجيش الإسرائيلي إلى قرب القناة وخط ممراتٍ متلا.
حرب 7 أكتوبر درس ليس لإسرائيل وأمريكا وأوروبا الاستعمارية فقط، وإنما أيضًا للأنظمة العربية وللعالم. ولا يمكن مقارنتها بأي حرب تحرير أخرى، فأنموذج فيتنام الذي غير نهج الإمبريالية الأمريكية، وفرض عليها الانكفاء لأعوام، كانت مساحتها 690،331، وسكانها حينها يزيدون على الخمسين مليونًا.
والغابات تغطي جبالها ووديانها وقراها، وخلفيتها وداعمها الصين الشعبية والاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي حينها والأحزاب الشيوعية والاشتراكية وحركات التحرير الوطني ودول عدم الانحياز.
أما غزة فأصغر رقعة، لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومتًر مربعًا، وسكانها مليونان وربع مليون، وانتصارها مختلف عن كل الانتصارات التي شهدها العصر، فقد اجتاحها الجيش الرابع أو الخامس في العالم مؤزرًا ومسنودًا بالقوة الأمريكية، وبدعم ومساندة أوروبا الاستعمارية.
غطى سماءها الطيران الإسرائيلي والأمريكي، بمشاركة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا ودول أخرى.
ألقت الطائرات مئات آلاف الأطنان من المتفجرات والقنابل زنة مائتي طن ودُمرت مدنها وقراها وأحياؤها وحتى طرقاتها وكل معلم من معالم الحياة أو مظهر من مظاهر التمدن. هُجّر أبناؤها داخل بلدهم أكثر من مرة، القتلى يتجاوزون المائة ألف إذا ما أُحصي المدفونون تحت الأنقاض، والمعاقون والمصابون مئات الآلاف، وفرض عليها التعطيش والتجويع على مدى عامين.
انتصار غزة العظيم هو المقاومة شبه السلبية، فهي حرب إبادة وتدمير لكل شيء، يقابلها العناد والصبر ورفض التهجير. الهدف الرئيس للاحتلال الاستيطاني والامبريالية الأمريكية.
خطة ترامب لم تكن خطة ملغومة، كما ساد، وإنما هي نفسها لغم كبير، فما أرادته الخطة، وتقوم بتنفيذه عبر استمرار الاحتلال والتصعيد في الضفة الغربية، وعدم تنفيذ البنود بدقة في المرحلة الأولى، بما في ذلك الانسحاب ودخول المساعدات والإفراج عن قادة الأسرى الفلسطينيين رغم الاتفاق وتعهد الجانب الأمريكي.
ما تريده أمريكا هو فك العزلة المضروبة على إسرائيل، وإطلاق الأسرى الإسرائيليين، الهدف المشترك لترامب ونتنياهو. أما المرحلة الثانية فبقاء التهديد لغرض التهجير وإرغام مصر والأردن على قبول المهجرين، وإلزام السعودية ودول الخليج بتمويل التهجير، وربما امتد التهجير إلى سوريا والعراق ودول أخرى.
فالتطهير العرقي والتهجير هو الهدف الرائد للحروب منذ ثمانية وأربعين وما قبلها، وقد يتم التراجع تكتيكيًا، ولكنه يبقى وراء كل الحروب. وعندما عيّن ترامب نفسه رئيسًا للهيئة الدولية الحاكمة في غزة، لكأنه يعني ترؤسه المنطقة العربية كلها، وبالأخص مناطق الثروة التي يرى نفسه أحق بتملّكها، ولا يكتفي بولاء وتبعية حكامها ولا طاعتهم في دفع الاتاوات وقبول الاملاءات، حتى لو كانت ضد قناعاتهم ومصالح شعوبهم.
صمود الغزيين في وطنهم، والاحتجاجات في إسرائيل، والاحتجاجات في المدن والجامعات الأمريكية والأوروبية الاستعمارية، هي التي أرغمت الحكومات الأوروبية على التراجع عن مساندة الحرب، والانتقاد لها وللحِصار والتجويع، كما هو الحال بالنسبة لمقاطعة ممثلي مختلف دول العالم لخطاب نتنياهو في دورة الأمم المتحدة الأخيرة، وهي ما فرض على شريكه في حرب الإبادة، ترامب، أن يقول له: “لا تستطيع إسرائيل محاربة العالم” ، وهو ما فرض الاتجاه لوقف الحرب التي عجزت عن دفع الغزيين للفرار من الجحيم.
اللغم الكبير (الخطة) يتوخّى فك العزلة عن إسرائيل وإظهارها بمظهر المنتصر، وتحويل كارثة الإبادة إلى واقع يقبل به الموالون من الحكّام العرب والمسلمين، ويُرغم المقاومة الفلسطينية على القبول به وتسويقه عالمياً.
الدعوة المصرية لمؤتمر دولي فيها قدر من الاستشعار بالخطورة عليها، وعلى فلسطين والأمّة العربية. الخطة تطلق يد المستوطنين في الضفة الغربية، وبتملّك ترامب (عقار غزة) يبقى الباب مفتوحًا أمام التهديد بالتهجير مع استمرار التلويح بالحرب وقيام «إسرائيل الكبرى» والشرق الأوسط الجديد وصفقة القرن، والحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية، وفرض الإبراهيمية على بقية الدول العربية، وبالأخص السعودية التي تربط التطبيع بالاعتراف بالدولة الفلسطينية ومد التطبيع إلى بعض الدول الإسلامية.
خطاب ترامب في الكنيست فيه ما يشبه التأكيد على مقولة أنّ إسرائيل هي المحافظة الواحدة والخمسون، فقد تكلم ترامب كحامي حمى إسرائيل، وهو من يفرض الحرب والسلام، وطالب بإعفاء نتنياهو من المساءلة.
كما أكد اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتمليكها الجولان السورية.
أم العروسة (ترامب) تحول إلى مضيف في شرم الشيخ، ويتزعم وكانه الداعي، ورب البيت، لم يتفوه بكلمة عن الحق الفلسطيني أو الدولة الفلسطينية، وتركزت الوثيقة حول وقف الحرب، وهو المكسب المهم، ولكن لا ضمانة لالتزام إسرائيل به.
النصر المبين في القبول بوقف الحرب، ولو تكتيكيًا، هو عجز أقوى مكينة حربية في المنطقة عن كسر إرادة الشعب الفلسطيني الأعزل، وكانت مقاومته الباسلة رفض الاستسلام، وعدم القبول بالتهجير القسري الذي راهن عليه نتنياهو واليمين الصهيوني وترامب.
الخطر القائم: الضغوط الأمريكية على الوسطاء والحكام العرب، والخنوع المطلق للإرادة الأمريكية.