
- كتب: عمار الأصبحي
رئيس التحرير – بيس هورايزونس
كل عام يعود تشرين محملًا بالحرية، ليطرق أبواب الذاكرة ويوقظ فينا وهج الحلم الأول…
يذكرنا بأن الرابع عشر من أكتوبر لم يكن يومًا عابرًا، بل لحظة فاصلة حلم بها رجال نذروا حياتهم من أجل وطن حرٍّ كريم.
اثنان وستون عامًا مضت على ثورة الرابع عشر من أكتوبر، أكثر من نصف قرن على الحلم الذي أراده الآباء بوابة لغد أجمل… غير أن القهر ما زال سائداً، والواقع تخيّم عليه غيوم النكران.
هذا الصباح، أتأمل وجه أبي وأتوشّح بملامح الفدائي الأكتوبري، ذاك الثائر الذي لا ينكسر.
كان أبي من أولئك الذين آمنوا بأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع…
في الصباح يعمل في محله الصغير لبيع الدراجات الهوائية، وفي المساء يوزع المنشورات ويدعم رفاقه في مهمات الثورة سرًا.
أخبرني أحد رفاقه أن أبي كان يخفي في صندوق الدراجة منشورات الثورة، وأحيانًا السلاح، ويضع فوقها أسماكًا غير طازجة لتجنب التفتيش عند نقاط الجنود البريطانيين، وما إن يشمّ الجنود الرائحة الكريهة حتى يأمروا بعبوره دون تفتيش. كان يدرك أن التفتيش يعني الموت أو الاعتقال، فابتكر حيلته هذه التي تؤكد عبقرية المقاتل الفطري ودهاء شعب قاوم الإمبراطورية العظمى بأدوات متواضعة وإرادة لا تُقهر.
لم يحدثنا أبي عن تفاصيل نضاله، لأنه كان يرى ما قام به واجبًا مقدسًا لا يستحق الفخر، ولا ينتظر عليه جزاء، وربما لأنه كان يدرك أن الأوطان غير المكتملة لا تحتمل حكايات الأبطال، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من أي مدح.
رحل أبي، وترك لنا سيرته البيضاء، وشهادات رفاقه الذين وصفوه بالفدائي الشجاع… بقي اسمه في ذاكرة القلة الذين عرفوه، أما الدولة فلم تعد تعرفه.
ذلك المبلغ الزهيد الذي كانت تصرفه هيئة رعاية أسر الشهداء والمناضلين كان يستلمه أحد رفاقه، ومنذ سنوات لا نعرف مصيره.
فأين رواتب أبي؟ من يجيب اليوم في ذكرى أكتوبر؟
إن جوهر الثورة وعد بالكرامة والحرية والعدل… لكن حين تتنكر الدولة لأولئك الذين ضحّوا بحياتهم لأجلها، تتحول الثورة من وعد إلى جرح مفتوح… ويصبح السؤال عن جدواها مشروعًا!
مع ذلك سأكابر هنا وأخاطب أبي… سأستدعي روحه من عليائها لأناجيه وأحتفي به اليوم، كرمز لجيل آمن بأن الثورة طريق إلى الكرامة لا إلى السلطة أو المال.
غفرانك يا أبي، لقد منحت وطنك ما استطعت، وتركت لنا ميراثًا من الكبرياء لا يزول.
سلامٌ عليك أيها الثائر الأبي، وسلامٌ على رفاقك الأفذاذ…
وكل عام وأنتم ثورة مجيدة تشتعل فينا أبدًا. شعلة لا تنطفئ.