- كتب : جمال حسن
حدث جدل وانقسمنا؛ البعض قال ان راغب افضل وانا كنت في صف من قال ان عمرو دياب افضل. لكني سأتحدث اليوم عن اراء مبعثرة حول فنانين كثر بينهم حليم وفيروز.
يرتبط صوت عمرو دياب بحبي الكبير، ربما كانت هناك اغاني كثيرة ايضاً. هي اهدتني البوم “سحراني” لفنانها المفضل “ايهاب توفيق”. كان لدي موقف متطرف من جيل دياب وتوفيق، ثم تغير الأمر.
لكن ما ان استمع لاغنية قمرين حتى يأخذني الزمن الى هناك. تلك اللحظات الجميلة. اتذكر اني كنت مشغولاً بفتاة اخرى، كان وضعها شائكا، هي الاخرى انجذبت لي كما يبدو، لا اعرف ان كانت تعنيني حين قالت انه حب مستحيل. وفجأة وجدت نفسي اثمل واتدحرج بكل خفة العالم.
حياتي شهدت تنقلات وتقلبات؛ اواخر الابتدائية عُرف عني الذوق الهابط. في اخر سنوات طفولتي احببت راغب علامة واغانيه. سقطت الاتحاد السوفيتي عام 1991 بصورة طوت عصر، وعدت الى الاقدم.
انتقلت الى طور اخر في مراهقتي واصبحت حليمياً. كم نكون مفعمين بالعواطف، في كل شيء تكون ردود افعالنا متطرفة ومبالغ فيها، كان حليم التعبير المتطرف عن العاطفة.
لدي اهتمام فطري بمعرفة من لحن هذه الاغنية وتلك. كنت استطيع تسمية الملحنين، واتذكر ان سامي الحفناوي مثلا هو ملحن اغنية ميال منذ طفولتي. حتى اني بدأت في فترة من مراهقتي اعرف اسلوب الملحنين واخمن ملحن اغنية اسمعها اول مرة او لم يكن لدي فكرة عنه، وقلما اخطأت: عبدالوهاب، السنباطي، الموجي، الطويل، بليغ حمدي.
هل امتلكت أذن موسيقية، ليس هذا الامر، انما الاهتمام والشغف. حلمتُ ان اكون موسيقياً، ولم يتحقق ابداً، لأني لم اتعلم حتى عزف آلة، ولدي ايضاً اشكالية في مجاراة الزمن الموسيقي.
كم من الاحلام لم تتحقق، لكن الموسيقى تدور في راسي، وما ان اكتب دون وجود موسيقى في رأسي، اجد صعوبة وثقل. اتذكر اني كتبت اشعاراً سخيفة في مرحلة اخذت فيها اغاني فيروز معظم اهتمامي.
عندما استمتعت اول مرة لبيتهوفن انزعجت، تقبلت شوبان وتشايكوفسكي، عدا في مناطق ترتفع فيها الموسيقى حداً لم يكن مألوفاً لدي.
في اول عام جامعي، كان اجمل لحن بالنسبة لي، “بنت الشلبية”، وهو لحن اصله عراقي او ايراني اقتبسه الرحابنة. لكني كنت اعلن حبي دون ان اعرف لمقام النهاوند. مع الوقت تتدرج ذائقتنا في سلم اعلى، ولا يعني ان عمرو دياب يقف في اعلى السلم. اقصد روائع الموسيقى؛ باخ، بيتهوفن، موزارت، شوبرت، شوبان، فيردي وسترافنسكي وبروكوفيف.
هناك موسيقى تدخل قلوبنا لأنها جزء من تكويننا العاطفي والثقافي، لكن الفن ليس امراً حسياً بل ذهنياً يتطلب تعميق معارفنا.
عشت سنوات من عمري مسجوناً، ماذا سيقولون عني، او ماذا ان فعلت هذا الامر. لم يعد هناك ما يجعلني افكر بتلك الطريقة. لكن اهم ثورة في حياتي، عندما تخلصت من شغفي بالمذهب الرومانتيكي، وتصوراته. هناك تصور مأساوي عميق وراء كل اتجاه رومانسي؛ ربما وردة حمراء، لكن هناك ايضاً شلالات دموع.
في مرحلتي الحليمية، كنت اريد الظهور بسمات الحزن، ورغم انه جزء من تكويني، الا انه مخفي وعميق. وكم انزعجت لان ابتسامة خذلتني، ضحكة ما. وكم شكوت نفسي لأني لم احتفظ برصانة الجدية، ويالبلاهتنا حين ننحاز للعادات المملة. تصرفتُ بتلقائية لأن اكثر شيء امقته؛ الملل.
في مرحلة راغب علامة، كان تركيزي العظيم على جمال الشكل. افكر كيف سأبدو وسيماً مثله، لا اكذب، حتى اني جريت بصورة بطيئة وانا مرتدياً جاكيت لابدو مثل راغب في كليب “قلبي عشقها”.
عمتي التي هي امي، عندما سألتها جارتي، كانت مثلي في ثالث ثانوي وتدرس بجدية؛ هل يُذاكر جمال. ردت بسخريتها الرائعة، انه يجلس امام المرآة.
ماذا افعل؟ كان الجميع يقول اني احظى بوسامة. كم تجعلنا النرجسية حمقى؟ عندما واعدت فتاة وفي منتصف لقاءنا قالت هل تعرف انك وسيم. كنت احظى بثقة مزعجة في هذا الامر: اعرف ذلك، رددت. هي شعرت بالامتعاض. في ذلك الوقت وقعت في غباء الاستماع لكاظم الساهر.
اعترف بتحيزي حين اسمع اغاني عمرو دياب، لارتباطي بذكريات حميمة وخاصة.
لا يتطلب الحب ان نظهر مفعمين بالحزن والمأساوية، على طريقة حليم. انما، نزقاً حالماً مليء بالدعابة، بالتأكيد سيكون هناك بكاء ودحس، لكن كنت اعرف اني محبوباً حين اجعلهن يمتن ضحكاً، ليس لأني اقصد ذلك بدرجة رئيسية. كانت تصرفاتي المليئة بالتناقضات تثير حبكات كوميدية.
في لحظات استماعي لعمرو دياب كنت اعرف كيف احب. وعندما اختصمنا، وبينما استمعت لاغنية “وهي عاملة ايه دي الوقت” قررتُ المبادرة، القيت بالكبرياء الزائف؛ اتصلت دولياً وتحدثت لها، لاني كنت مسافر حينها وانتهى كل شيء.
نسيت قول شيء، كنا سنفترق، وبالتأكيد كنت انا السبب في ذلك. كل شيء كان مهيأ لتنتهي الحكاية، وكان صوت عمرو دياب يغني “قلي الوداع وانا اقولوا ايه، هو الوداع يتقال فيه ايه” ماذا سأفعل؟
كانت الاغنية ما ان تنتهي تعود تلقائياً كل مرة، ذُعرت، واظن انها فجأة شعرت مثلي بفداحة الوداع بينما كان يردد “حسيت اني لقيت حلم السنين وصحيت فجأة بقيت من المجروحين”.
في اغاني حليم سيكون هناك يأس، وسنعشق الألم الى درجة ان يصبح الوداع امراً حتمياً. اعتقد ان راغب لا يمتلك هذا العمق العاطفي، هذا هو الفارق بين طبيعة البحر والحياة الملتفة حول نهر. في الاولى عدم تعلق وهجرة وفي الثانية تعلق شديد العاطفة. والامرين ليسوا دائماً ايجابيين او سلبيين.
لكن عندما اشتريت اسوأ صندل نسائي كهدية، في ذلك الوقت كنت سأحتاج اغنية راغب “رحت لعند الجوهرجية بدي اشتريلك هدية، مالقيت هدية بتلقلك لو جبتلك جوهر تقلك”.
دائما كانت هناك اغنية في حياتي، وفي احاديثنا في التلفون اسمعتها عشرات الأغاني، لكن لا انسى اغنية فيروز:
عندي ثقة فيك
عندي أمل فيك
وبيكفّيك
شو بدك يعني أكتر بعد فيك؟
كم كانت تجعلني الاغنية مفعم بالمشاعر. انها واحدة من اجمل اغاني فيروز، وبالعودة لها الان ادركت ان موسيقى الاغنية الجميلة هي التي كانت تجعلني اهتز، اما زياد فكشف ان صوت امه اكثر من عادي خارج الاسلوب الرحباني الرومانتيكي، أو انها فقدت زخم صوتها بنغمته الملائكية فكان منقذا لها. وفي الحقيقة كان الجميع يستمع لتاريخ فيروز المسلم به، ويحتفي بأسطورتها القائمة، ليؤسطر ايضاً غنائها في الاسلوب الزيادي.
لكن ماذا عن اغنية “قمرين” انها تدفع قطار ذاكرتي الى ذلك الزمن، حين احببت بايقاع راقص مليء بالمرح.
الحزن قاتل للحب، وحين يكذب العاشق يكون حزيناً اكثر منه فرحاً.