- كتب: د. قاسم المحبشي
البارحة وأنا أفكر في حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798م وما تلاها من استعمار معظم المدن العربية المطلة على البحار ومنها مدينة عدن الحبيبة التي استولى عليها الإنجليز عام 1839م ومكثوا فيها 129عاما حتى نيلها الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م وقبل قليل كنت مع المذيع المحترم محمد الردمي في قناة الجمهورية اليمنية نحتفي بالذكرى السابعة والخمسين لعودة عدن أهلها وما جرى بعدها.
تبين لي أنه يستحيل فهم تاريخ المدن البحرية بدون معرفة تاريخ البحار والممرات المائية حول العالم . كتب الشاعر الكاريبي، ديريك والكوت الحائز على جائزة نوبل عام ١٩٩٢م ما يلي:
“أين شواهدكم ، معارككم، شهداؤكم؟ أين ذاكرتكم القبلية؟ أيها السادة.. في القبة الرمادية.. البحر البحر قد أقفل عليها… البحر هو التاريخ”.
بهذا النص الشعري أستهل مايكل نورث كتابه (اكتشاف بحار العالم من العصرالفينيقي إلى الزمن الحاضر).
ربما قرأنا عن تشبيه التاريخ بالنهر بوصفه صيرورة دائمة الحركة عبر الزمان من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل إذ أن التاريخ يجري كما تجري مياه الأنهار إلى مصالتها؛ أنها تجري باستمرار يستحيل الاستحمام بها مرتين! بحسب هيرقلطيس. لكن هل هذا التشبيه دقيق ويشبع المعنى؟.
الأنهار تجري في مسار واحد تنساب أو تجرف لكنها جميعها تصب في آخر المطاف في البحر؛ البحر البحر هو من يشبه التاريخ أو يشبهه التاريخ إذ أننا نعيشه كما تعيش الأسماك بالماء وكما هو قانون البحار وحياة الأسماك الكبيرة التي تتغذى على الأسماك الصغيرة يمكن النظر إلىالتاريخ وحركته المستمرة. نعم هو يتحرك حركة ذاتية نسبية ولكنه لا يسيل إلى مكان ما خارج هذه الكوكب. ومن البحر استلهم الشاعر الكاريبي ديريك والكوت قصيدته (البحر والتاريخ) فالبحر هو محور التاريخ حيث يحتفظ بالذكريات في قاعه كما يحتفظ بجثث ضحاياه وسفنهم ومقتنياتهم. ومن الاخطاء الفادحة في الدراسات التاريخية التقليدية أن الباحثين في التاريخ والآثار انشغلوا في تدوين ما حدث ويحدث في اليابسة وكل ما هو متاح للرؤية والمشاهدة بينما ظل التاريخ الحقيقي محتجبا عنكم في اعماق البحار والمحطات التي تشكل ثلاثة أرباع الكرة الأرضية مجازنا بينما هي في حقيقتها كرة مائية أو بحرية وصف أقرب إلى الحقيقة. وربما كان البحر لا النهر هو اكثر شبها بالتاريخ – أو بالاحرى التاريخ هو الذي يشبه البحر وتحولاته وتياراته وموجاته المتصادمة وهذا ما ادركه فيلسوف التاريخ الامريكي المعاصر اولفينتوفلر إذ كتب في ” بناء حضارة جديدة ” إن تشبيه التاريخ ” بموجات ” تغيير – في اعتقادنا – أكثر تعبيراً عن ديناميكيه، وأنسب من الحديث عن الانتقال إلى ” ما بعد الحداثة “. فالموجة حركة. وعند اصطدام الموجة بالأخرى تتولد تيارات قوية متلاطمة، وعند تصادم موجات التاريخ فإنحضارات بأسرها تتصادم، و يلقى هذا الضوء على كثير مما يبدو في عالم اليوم عشوائياً أو بلا معنى” هذا الباراديم في رؤية التاريخ والعالم من جديد هو الذي لمحته وانا بصدد كتابة ورقة بحثية في مدارات ما بعد الكولونيالية. إنه البحر الذي يستحق القراءة منذ أقدم العصور ولا زال هو من يشكل ويعيد تشكيل العالم بمختلف الصور والأنحاء وكل دراسة لإحداث ووقائع التاريخ الأرضية تظل قاصرة بدون أن تشتمل على فهم دور البحر وتاثيره المباشر وغير المباشر في حياة الناسالترابية. وربما ادركت مدرسة التاريخ الجديد موخرا ذلك الأمر إذ عرّف المؤرخ الإنجليزي هاري المربارنز (التاريخ الجديد) بأنه: “طريقة العرض التاريخي التي تحاول بصفة عامة أن تعيد صياغة تاريخ الحضارة ككل بوصفه على حد قول الاستاذ روبنسون – كل ما نعرفه عن كل شيء فعلهالانسان أو فكر فيه أو أمل فيه أو حلم فيه. ويعد الأمريكي جميس هارفي روبنسون، الذي ورداسمه في هذا التعريف أول من استخدم مصطلح التاريخ الجديد إذ كان قد نشر كتاباً فينيويورك في عام 1912 يحمل أسم (التاريخ الجديد) جاء فيه: “ان الانسان ليجد عزاءاًً وراحة عقليةفي ترك أي محاولة لان يعرف التاريخ وأن يقنع باعتبار: مهمة المؤرخ أن يكشف أي شيء عنماضي الجنس البشري يعتقد أنه شائق أو مهم يستطيع أن يضع يده على مصادر المعلومات عنهوقد أوضح الاستاذ بارنز أن ما هو جوهري في هذا التعريف لمصطلح التاريخ الجديد أنه يؤكدعلى البحث عن الأصل (Genetic Orientation) كالبحث عن أصل الانسان وتطوره، وأصلاً لتنظيمات الحضارية وتطورها. ومن هنا، فانه يرى أن على المؤرخ الذي يسعى لكتابة التاريخ على وفق هذا التصور الجديد أن يكون لديه إلمام كامل بطبيعة الانسان وعلاقته ببيئته الطبيعية والاجتماعية الامر الذي يمكنه من معالجة مشكلة إعادة صياغة الاوجه المختلفة لتاريخ الحضارة. وفضلاً عما تقدم، فإن على المؤرخ أن يتلقى تدريباً مناسباً لتحليل التطور في النظم، وهو التطورالذي يحفظ سجل سيطرة الانسان تدريجياً على بيئته المادية ونجاحه المضطرد في تنظيم الجهود التعاونية لبني جنسه. وهنا يؤكد الاستاذ بارنز، أن هذا النوع من التاريخ الحضاري يتطلب من المؤرخ الطموح الذي يسعى للعمل في ميدانه أن يكون مزوداً بمعلومات اساسية من “علم الاحياء، وعلم الاجناس البشرية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع. كذلك، فان عليه أن يتدرب تدريباً خاصاً في العلوم الاجتماعية والجغرافيا اهمها ، وفي بعض فروع العلوم الطبيعية، وعلم الجمال، …” إذ أكد فرنان بروديل – وهو من أبرز رواد التاريخ الجديد – أن التاريخ يجب أن يكون شمولياً أو لايكون، “وهو يحتاج إلى العلوم الاجتماعية الأخرى، وقادر على تبني اشكال التفسير الجديدة التي تبتدعها هذه العلوم وتكييفها لأغراضه الخاصة. والتاريخ قادر بدوره على تقديم ما تفتقرإليه العلوم الأخرى، وهو البعد الزمني، الذي يمثل خصوصيته، ولايهم في نظر بروديل ان أتهم البعض التاريخ بأنه (امبريالي) يريد ابتلاع كل شيء” وقد أشار عبدالله العروي إلى أن مفهوم الشمولية كما يعرضه بروديل وغيره من مؤرخي مدرسة الحولياتمستوحى من علماء الانثربولوجيا وبخاصة من الباحث الفرنسي مارسل موس الذي يرى أن”المجتمع، أي مجتمع، يكون في الحقيقة وحدة عضوية، فلا يمكن تجزئته الى قطع مستقلة تدرسكل واحدة منها على حدة. ان في قلب كل جزئية وظيفية يجب البحث عن مفعول الظاهرة الشمولية”.
وهو الامر الذي فعله بنفسه حينما جعل من عالم البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي علىأيام فيليب الثاني – وهذا هو عنوان الكتاب الذي أصدره عام 1949 – نموذجاً تطبيقياً لكتابة التاريخ بحسب المنهجية الشمولية التي يدعو إليها. وقد توصل بروديل من دراسته المستفيضة لهذا الموضوع إلى وجود شخصية تاريخية لهذا البحر. وقد تجلى ذلك في وحدة النظم الاقتصادية والسياسية التي سادت في معظم الدول التي قامت على شواطئه.
هكذا بدا الأفق الشمولي عند بروديل”مجموعة تاريخية يشملها نمط واحد من نظم الحياة المادية والروحية، والسمة الأولى للحضارة هي أنها حقيقة واقعية ذات مدة مفرطة في الطول، وسمتها الثانية هي أنها مرتبطة أوثق الارتباط بمكانها الجغرافي إذ تحدث بروديل عن ثلاثة أزمنة وهي:الزمان الجغرافي والزمان الاجتماعي والزمان الفردي. وفي اطار هذا الفهم تبرز “امكانية لكتابة ثلاثة تواريخ ثانوية أو فرعية تصب كلها في ذات التاريخ الأصلي (الكلي) أو (الشامل): أولها تاريخ جغرافي (يهتم بدراسة الطبيعة أو المكان كتاريخ)، ثانيها: تاريخ ظرفي اجتماعي (يعنى بدراسة المجتمع والحضارة)، ثالثها: تاريخ حدثي (سياسي). ولا يعني هذا الاخير عودة مقنعة إلى المنهج التاريخي القديم، بل التأكيد على أن ثمة شروطاً تحدد الحدث نفسه وتسمح بامكانه”. وقد خلص بروديل من كل ما تقدم إلى أنه قد أنجز في كتابه (البحر الابيض المتوسط والعالمالمتوسطي على عهد فيليب الثاني) تاريخاً متعدداً لكنه واحد، لأن حركته تسير من البنية، أي منشروط لامكان إلى الحدث.
في ضوء ما تقدم يمكن لنا القول بأن فهم تاريخ العالم الحديث والاستعمار أهم ملامحه لا يمكن أنيتاتى بدون فهم حركة الاكتشافات الجغرافية وطرق السفن والبحارة ورواية روبنسون كروزو
وفي ذات السياق “تضع أعمال قرنح المحيط الهندي في المركز كمكان، وخلاله تتخلق التواريخ والهويات والعلاقات والصلات والسياسات. إن الساحل الشرق إفريقي السواحيلي العريض، والذي لا يحظى بما يستحق من استكشاف مع ذلك، هو موطن مزيج ثري من أشكال التراث الإفريقي والآسيوي والعربي، وهذه العوالم هي التي يرسم قرنح خرائطها في رواياته”.
والاكتشاف فعل حركة ونقلة وقوة وتفوق وسيطرة ومن يكتشف يصمم ويشكل يسمي الذاتوالأخر فمن نحن ومن الآخر وكيف يمكننا الخروج من هذه الشبكة العلائقية المستحكمة في تاريخنا الحديث والمعاصر؟ وفي ذكرى إخلاء بريطانيا العظمى سبيل عدن وتحريرها من قبضتها الاستعمارية الغربية الحديثة يحضر البحر بصور شتى واليكم الصورة التي سيطرت على ذهني وأنا اتأمل تاريخ العالم وعدن جزء فاعل فيه:
كانت السفن الشراعية تمخر عباب مياه البحرين الأحمر والعربي منذ الألف السنين في طريقها إلى الهند أو أفريقيا عبر مضيق باب المندب الشهير الذي يشبه أسمه إذ تروي الأسطورة أن الكلمة تطلق على البحر المحيط بجزيرة ميون اليمنية بمعنى “بحر الموت”، ربما بسبب كثرة الشعاب المرجانية والجزر الصغيرة التي تعترض طريق الملاحة وتعرّض السفن التي تمخر عبابه لكثير من المخاطر وربما بسبب الرياح العاصفة والأمواج العاتية وربما بسبب القرصنة والصراع المميت بين ربابة البحار على التحكم بالمضيق. من هنا جاءت تسمية “باب المندب” أو “بوابة الدموع”، نظرا لما يعانيه البحارة المغامرون بالإبحار في مياهه من اخوف والفزع والموت. وقيل جاءت التسمية من دموع النساء اللاتي يودعن أحبابهن بين ضفتي المندب.
إذ يقع البحر الأحمر بين الجزيرة العربية شرقا وأفريقيا غربا، وهو عبارة عن أخدود مائي متطاول ضيق، يمتد بانحناء نحو الغرب من خليج عدن جنوبا إلى جزيرة سيناء شمالا، ومن هناك يتفرع عنه خليجان، هما: خليج العقبة شرقا وخليج السويس غربا، وتفصل بينهما شبه جزيرة سيناء.
وتطل عليه 8 دول: اليمن والسعودية من جهة الشرق، والأردن وفلسطين المحتلة وشبه جزيرة سيناء المصرية من الشمال. ومصر والسودان وإريتريا، وجيبوتي من الغرب.
وتمتلك السعودية أطول ساحل على البحر الأحمر، تليها مصر ثم إريتريا والسودان ثم اليمن، وأخيرا جيبوتي، أما فلسطين المحتلة والأردن فشواطئهما قصيرة جدا، وتقع أقصى شمال خليج العقبة.
وتقدر مساحة سطحه ما بين 438 و450 ألف كيلومتر مربع، ويمتاز بضحالة نسبية عند طرفيه، ويزداد عمقا في الوسط، حيث تصل أعمق نقطة فيه إلى ما يقارب 3 آلاف متر، في حين يبلغ متوسط عمقه ما يقارب 500 متر. ويبلغ طوله من جنوب السويس إلى مضيق باب المندب حوالي 1930 كيلومترا.
في الأزمنة القديمة لم يكن العابرون يعلمون بما يوجد خلف جبال المندب الشاهقة وبالمثل لا علم لأهل السواحل من الصيادين وسكان الدواخل بمن يمرون في بحرهم ويقال أن الاسكندر المقدوني مر في باب المندب في طريقه إلى الهند. وفي 1798 – 1801حملة نابليون على مصر، وعام 1830 احتلت فرنسا الجزائر وفي مطلع العصر الحديت بدأت المنافسة بين الدول الأوروبية في سباق محموم لأكتشاف العالم والسيطرة عليه إذ القى الأسباني كولمبس مراسيه في العالم الجديد عام 1492م، والقى البرتغالي فاسكودى جاما مراسيه على ساحل الهند الغربي 1498م واستطاع ماجلان في السفينة فكتوريا ان يدور لأول مـرة حول الأرض(1519-1522), وفي عام 908 هـ (1503م) وصل البرتقاليين الى سواحل عدن ونهبوا سبعة مراكب وقتلوا أهلها ومنذ ذلك الحين والصراع بين القوى الكبرى محتدما في خليج عدن عام 1799م استولت القوات البحرية البريطانية على جزيرة ميون الواقعة بقرب مضيق باب المندب والمتحكمة فيه، غير أنها تخلت عنها بعد تعرض فرنسا للهزيمة في مصر ولم تعد من الاسباب المهددة للمصالح البريطانية في المنطقة. وفي عام 1802م عقدت معاهدة مع السلطان العبدلي وبموجب هذه المعاهدة أصبح ميناء عدن مفتوحاً أمام السفن والبضائع البريطانية، وتم تأسيس وكالة تجارية بريطانية في مدينة عدن وضمت الاتفاقية توفير وسائل الحماية للرعايا الإنجليز في السلطنة.
أثناء الحرب البريطانية – الأمريكية بين عامي (1812-1814م) تعاظم الاهتمام البريطاني بشكل واسع بمدينة عدن ومناطق الجنوب العربي عامة للحد من اتساع التجارة الامريكية وتجارها، الذين أصبحوا في حينها يحتكرون الجزء الاكبر من تجارة البن في المخا ومناطق من اليمن، وبذلك هددوا المصالح التجارية البريطانية في المنطقة.
توسعت أهمية عدن الاستراتيجية في سياسة بريطانيا عند اواخر العشرينات من القرن التاسع عشر، وكان ذلك عندما هدفت بريطانيا لاستخدام البحر الأحمر كطريق للمواصلات التجارية بدلاً عن الطريق البحري الطويل حول منطقة الرجاء الصالح، وكان لاكتشاف البخار الاهمية الكبرى في جعل بريطانيا تنظر إلى مدينة عدن كمحطة لتموين السفن بالفحم، خاصة وأن ميناء عدن موقعه في منتصف الطريق الواقعة بين مدينة بومباي في الهند وقناة السويس في مص.ر وفي عام 1829م استأجر الانجليز مساحة في جزيرة صيرة في مدينة عدن وكذلك في مدينة المكلا عام 1830م لنفس الغرض” ( ينظر، نجمي عبدالمجيد، أهمية عدن في السياسة العالمية. صحيفة الأيام , 05 يناير 2006)
المهم تمكن الانجليزي الكابتن هنس من الاستيلاء عليها في 19 يناير 1839م. حينها كانت بريطانيا في أوج مجدها ففي عام 1821 وصفت مجلة كاليدونيان ميركوري الإمبراطورية البريطانية قائلة: «لا تغيب الشمس عن ممالكها أبدًا؛ إذ أن الشمس تشرق على ميناء جاكسون في ذات الوقت الذي تغيب فيه عن أبراج كيبك، وتغطس في مياه بحيرة سوبيريور في ذات الوقت الذي تبزغ فيه من فم نهر الغان”وفى يناير عام 1836، كتب تشارلز داروين عندما شاهد ميناء سيدنى، الذى كان يخضع حينها لسيطرة بريطانيا «إن شعورى الأول أن أهنئ نفسى أننى ولدت إنجليزياً»، متباهياً بنفوذ إمبراطورية بلاده الذى امتد شرقاً وغرباً”هذا يعني أنه يصعب مقاربة أي حدث تاريخي في العصور الحديثة بمعزل عن الحركة الكالونيالية الاستعمارية الخشنة.
وحين يجعل البشر من تاريخهم موضع تساؤل فإنهم غالبا ما يتساءلون عن مصيرهم، أو عن حاضرهم كمصير، ومهما كانت الإجابات متنوعة في صحتها أو خطئها، فإن وعياً تاريخياً بدا يتشكل يحمل في طياته مستوى وعي البشر العام بكل جوانب حياتهم. وهكذا هو الحال مع ثورة 14 أكتوبر التي تحل بعد أيام ذكراها الثامنة والخمسون، وإذ تتعدد المقاربات تجاه هذه الثورة، فإن ما يهمنا في هذا المقال هو استعراض السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي قامت على إثرها الثورة وكيف تبدلت بعدها. على مدى 129 عام هيمن الانجليز على جنوب اليمن وفي 14 أكتوبر 1963م انطلقت من ردفان حركة الكفاح المسلح ضد الاستعمار الانجليزي في سياق دولي واقليمي ومحلي شهد ما يعرف بحركة حق الشعوب في تقرير مصيرها وحركات التحرر الوطنية في مصر 23 يوليو 1952 والجزائر والسودان والعراق وسوريا ولبنان وكان لثورة 26 سبتمبر 1962م في صنعاء ضد النظام الإمامي الكهنوتي دورًا في اشعال مشاعر النضال الوطني التحرري ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب العربي. نعم قامت الثورة حينذاك بوصفها حلما جماعيا بالحرية والسيادة الوطنية والعدالة والاستقرار والازدهار. فماذا يمكننا أن نتذكر منها اليوم من مشارف الذكرى 58 من عمرها واعمارنا . كنت طفلًا صغيرًا حينما رحل الأنجليز من عدن في 30 نوفمبر عام 1967م وكانت المشاعر والأحلام الثورية متقدة وهي تنشد الأغنية:
برع يا استعمار برع
من أرض الاحرار برع
برع ولا الليلة يكويك التيار
تيار الحرية تيار القومية
برع برع برع يا استعمار
من أرض الأحرار برع
تيار الجبار خلا شعبي ثأر
خلانا الجنوب يشعل كالجمره
تيار الجبار هو نفس التيار
حطم الاستعمار في مصر الحره
تياري بركان من اجل الانسان
اشعل في ردفان نيران الثورة
كانت أهداف الثورة ثورية أكثر من كونها سياسية لبناء مؤسسة وطنية جامعة للناس المشتين في حوالي 25 كيان سياسي تقليدي: سلطنات وامارات ومشيخات كبيرة وصغيرة. إذ اشملت اهدافها على الأتي:
1. تصفية القواعد وجلاء القوات البريطانية من أرض الجنوب دون قيد أو شرط.
2. إسقاط الحكم السلاطيني والتي يصنف بأنها رجعي.
3. إعادة توحيد الكيانات العربية الجنوبية سيراً نحو الوحدة العربية والإسلامية على أسس شعبية وسلمية.
4. استكمال التحرر الوطني بالتخلص من السيطرة الاستعمارية الاقتصادية والسياسية.
5. إقامة نظام وطني على أسس ثورية سليمة يغير الواقع المتخلف إلى واقع اجتماعي عادل ومتطور.
6. بناء اقتصاد وطني قائم على العدالة الاجتماعية يحقق للشعب السيطرة على مصادر ثرواته.
7. توفير فرص التعليم والعمل لكل المواطنين دون استثناء.
8. إعادة الحقوق الطبيعية للمرأة ومساواتها بالرجل في قيمتها ومسؤولياتها الاجتماعية.
9. بناء جيش وطني شعبي قوي بمتطلباته الحديثة تمكنه من الحماية الكاملة لمكاسب الثورة وأهدافها.
10. انتهاج سياسية الحياد الإيجابي وعدم الانحياز بعيدا عن السياسات والصراعات الدولية.
وهكذا كما جاء في قلب الأهداف كلها
الهدف الخامس (إقامة نظام وطني على أسس ثورية سليمة يغير الواقع المتخلف إلى واقع اجتماعي عادل ومتطور) كانت السياسية هي الغائب الوحيد في أهداف الثورة.
من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها ثور الجبهة القومية عدم قدرتهم على التمييز بين الفعل الثوري والعمل السياسي , بين الثورة والسياسة اذ انهم لم يفهموا طبيعة العلاقة لكي يدركوا مابين الثورة والسياسة من اتصال وانفصال وبدلا من البحث في الفروق والاختلافات وقعوا في وهم التشابه والتماثل بين المجالين الذين أفضى الخلط بينهما إلى تلك النتائج الكارثية التي آلت اليها ثورة 14 أكتوبر اليوم. ثمة فرق كبير بين الثورة والسياسة ,اذ ان حضور الأولى يعني غياب الثانية , الثورة حلم جماعي وفعل اجتماعي جماهيري عفوي أو هادف ضد وضع سياسي لا يطاق بينما السياسة وممارستها , على العكس تماما من الثورة وقيمها , انها فن الممكن , السياسة نشاط نخبوي عقلاني تحكمه قواعد لعبة مختلفة عن قواعد لعبة الثورة. الفعل السياسي يعني العيش المشترك للناس في كيان مدني منظم سياسيا بالدستور والقانون سيد الجميع وفق مبدأ قوة الحق لا حق القوة وهذا هو ما تخفيه الثورة والسياسة دائما بحسب روجيس دوبريه في كتاب نقد العقل السياسي. تلك الاختلافات بين المجالين لا تعني غياب أي علاقة ترابطية بين الثورة والسياسة، بل لابد من الاشارة الى ان العلاقة بين السياسة والثورة هي من طبيعة جدلية، بمعنى وحدة وصراع الاضداد، الذي يعني هنا ان الثورة تشترط وجود السياسة بوصفها دافعا وغاية ، اذ ان الثورة لا تقوم إلا ضد وضع سياسي وبتحفيز منه وهي ثانيا سعي دائم من أجل اعادة بناء أو تأسيس المجال السياسي في مكانه الصحيح والثورات ليست من الضرورات الحتمية، بل حالة اضطرارية ، فاذا استطاعت السياسة ضبط الشأن العام بما يؤمن الحياة الكريمة للإنسان ؛ العدالة والحرية وتكافؤ الفرص والعيش الكريم والأمن والأمان والتنمية والسعادة ، فمن المحتمل أن يكف الناس عن الثورات والخروج والعصيان ، ويحل بدلا عنها اتساع الامال والبحث عن الدعة والنماء والأعمار، ولا تدوم الدول الا بعدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح . كما كتب ابو الحسن الماوردي.
إننا إذ نقف اليوم عند الذكرى السابعة والخمسون لثورة 14 أكتوبر فإننا نقف أمام حقبة فاصلة في تاريخنا وليس لدينا سبيل آخر للتعرف تاريخنا وأزماته وفهم العلل والأمراض التي فتكت بحياتنا وبحث السبل والممكنات الناجعة لتجاوزها غير البحث والدراسة فلا عذر لنا طالما وقد قّدر لنا أن نكون شاهدين على هذه الحقبة الصاخبة بالحروب والعنف والظلم والظلام وبالمآسي والأزمات والإخفاقات , إذ أنه من المهين أن يكون سر أزمة حياتنا والتقييم الدقيق لمصائبنا وأزماتنا وقفاً على أناس لم يولدوا بعد ولا شيء يمكن انتظاره إذ لم نبادر نحن بعمله ولا عذر لنا طالما ونحن موجودون هنا والآن.
وهذا هو ما دفعني لكتابة في الحدث والذكرى. ورأيي أن اليمن جنوبه وشماله يعيش منذ أكثر من نصف قرن، أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية بنيوية معقدة ؛ إذ رغم مرور قرابة ستة عقود على الثورتين؛ ثورة 26سبتمبر 1962م ضد الحكم الإمامي في صنعاء عاصمة شمال البلاد؛ تلك الثورة التي انتصرت حينها بدعم سخي من الجيش المصري العظيم. وثورة 14أكتوبر 1967م ضد الاستعمار البريطاني في عدن عاصمة الجنوب وما تلى ذالك من حروب بين الجنوب والشمال على مدى عشرين عام ثم إعلان الوحدة الاندماجية بين الجمهوريتين؛ الجمهورية العربية اليمنية في صنعاء وجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في عدن ومسيرتهما إعلان بما يسمى مشروع الوحدة الاندماجية في 22مايو 1990م في إطار كيان سياسي جديد هو (الجمهورية اليمنية) وما تلاها من أزمة وحرب أهلية في صيف 1994م اشتركت فيها القوى الشمالية التقليدية مع حزب الإصلاح اليمني ( حزب اخوان اليمن) لاصدار فتوى تكفيرية ضد الجنوب وشهبة فتوى أباحت القتل والنهب والسلب لكل شيء جنوبي. ومن ثم انتفاضة الحراك السلمي الجنوبي ضد ما اسماه الفيلسوف أبوبكر السقاف بالاستعمار الداخلي وظهور ما يسمى بحركة الشباب المؤمن (أنصار الله) في محافظة صعده باقصى الشمال وما تلاها من الحروب الستة شمال اليمن. ثم قيام ثورة شباب التغيير في فبراير 2011م في صنعاء. والمبادرة الخليجية ومؤتمر الحوار الوطني برعاية مندوب هيئة الأمم المتحدة جمال بن عمر مرورًا بصعود الحركة الحوثية وإعلانها البيان الدستوري في 6 فبراير 2015 ووضع الرئيس الشرعي تحت الإقامة الجبرية ثم هروبه إلى عدن ومنها إلى الرياض مرورًا بمسقط. ونشوب الحرب الطائفية الأخيرة واجتياح عدن في 25 مارس 2015م بالقوة العسكرية بعد حرب ضروس دمرت كل مقومات الحياة المدنية وبداية عاصفة الحزم من تحالف الدول العربية بقيادة المملكة السعودية في 26مارس 2015م، و”مؤتمر الحوار اليمني الوطني الشامل في الرياض في إبريل 2015م “وصعود قوة المقاومة الجنوبية المسلحة وإعلان عدن عاصمة مؤقتة للشرعية، وتشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي والجمعية الوطنية بدعم من دول التحالف العربي ورعاية مباشرة من الامارات العربية المتحدة وأزمة حكومة الشرعية في إدارة المناطق المحررة، وما صاحبها من نزاع عنيف في عدن مؤخرا بين المجلس الجنوبي الانتقالي وبين الحكومة الشرعية ومفاوضات السلام برعاية عربية في الكويت، ومؤتمر جنيف 16 يونيو 2015م وما تلاه من مشاورات ولقاءات متعددة بين الأطراف المتنازعة كان أخرها اتفاقية المصالحة بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة الشرعية اليمنية في الرياض بتاريخ 5/11/2019. بحضور دولة التحالف العربي وتمثيل أممي وبإشراف مباشر من المملكة العربية السعودية التي استلمت إدارة المناطق الجنوبية المحررة بعد مغادرة الامارات. ولإزالت الاتفاقية الأخير قيد التنفيذ. وربما تأخر البدء بتنفيذها بحسب مواعيدها المحددة بالإعلان. كل تلك الاحداث تجعل من سردية الثورة حديث خرافة. فما الذي بقي من ثورة أكتوبر وثورة سبتمبر اليوم؟ سؤال يثير الحسرة والإحباط للأسف الشديد.
بقي منها؟ ثمانية وخمسين عاما تنقضي من عمرها وعمرنا، ربما رحل معظم أفراد الجيل الذين عاشوا احداثها وشاركوا في إنجاهزها إذ من المؤكد أن أنهم قد حلموا بعكس ماجرى! فما أجمل الحلم وما أصعب الواقع. كان الواقع الاجتماعي والثقافي شديد التخلف والقسوة في معظم بلاد اليمن شماله وجنوبه. وحدها عدن التي كانت أشبه بوردة في الصحراء ولكنها مستعمرة بريطانية للأسف الشديد إذ شهد ميناءها ازدهارًا ملاحيًا وتجاريًا بحيث غدا ثاني ميناء في العالم وفي سياقه ازهرت مظاهر الحياة المدنية الحديثة على مختلف الأصعدة ففيها تأسست أول وكالات التجارة فضلا عن خدمات البنية التحية الكهرباء والماء والمدارس والمستشفيات والمطارات والتخطيط العمراني الحديث والموصلات والاتصالات والبريد والبرق والهاتف والإذاعة والتلفزيون والصحافة وغير ذلك وهذا ما جعلها سيدة الأحلام عند أناس ذلك الزمان:
عدن عدن يا ليت عدن مسير يوم
شاسير به ليلة مشرقد النوم.
عدن مدينة تطل على شريط مائي بحري يفصل بين الجزيرة العربية وشرق أفريقيا، ويتمتع بموقع إستراتيجي مميز، حيث يصل بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويربط المحيط الهندي وخليج عدن وبحر العرب بالبحر الأبيض المتوسط.
ربما كانت حداثة ومدنيتها وبالا عليها إذ لم يشهد التاريخ حالة مماثلة لمدينة دفعت ثمن تقدمها وازدهارها من دمها ولحمها.وحينما رحل الاستعمار البريطاني منها في 30 نوفمبر 1967م تسلم أمرها ثوار الجبهة القومية وجبهة التحرير بهدف تحرير السيادة الوطنية وبناء دولة المواطنين الأحرار فكان الواقع التاريخ أصعب بكثير مما توقعه الثوار وهذا من طبيعة الثورات التي استلهمت نموذج الثورة الفرنسية والثورة الاشتراكية وصف زعيم الثورة الفرنسية روسبير :«هذا التيار المهيب للحمم البركانية التي تقذفها الثورة، والذي لا يوفر شيئاً، وما من أحد يمكنه إيقافه» وهكذا حملت الثورة بوصفها أحداثا نادرة الوقوع ـ نسبياً، ولكنها هامة من الناحية التاريخية، يتم خلالها قلب النظام السياسي والاجتماعي كلية. وذلك باستخدام وسائل عنيفة عادة، ثم يتم إعادة بناءه أسس جديدة بقيادة جديدة – حملت ثقافتها الايديولوجية العابرة للتاريخ ومن ذلك الطبقات والصراع الطبقي والعنف الثوري المنظم و «الحتمية التاريخية ومزبلة التاريخ وغير ذلك من ثمار شجرة الارمول التي تم غرسها بلا جذور في اراضي لم يتم تمهيدها للزرع والثمر. كان الحماس الثوري بما يشيعه من سحر رومانسي هو الغالب في لحظة التي كان يجب أن يختفي؛ لحظة تحويل الثورة إلى مؤسسة جامعة للكيان الوطني مؤسسة المؤسسات الحامية والضامنة للناس والسيادة. ثمة فرق كبير بين الثورة والسياسة ,اذ ان حضور الأولى يعني غياب الثانية وحتى لا نظلمها فمن الحق الاعتراف بأنها غيرت المجتمع تغييرا إجتماعيا وثقافيا جذريا لاسيما في الأرياف التي كانت تعيش في كيانات سياسية تقليدية منعزلة. مع الثورة وبعدها تغير كل شيء في الجنوب بعكس ما جرى في الشمال التي احتفظت بمؤسساتها التقليدية ولم تتحول إلى دولة نظام وقانون للمواطنين بوصفهم جمهورا أو شعبا. وربما كان الانجليزي بول دريش في دراسته (اليمن: الإئمة والقبائل.. كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى) قد استطاع القبض على جذر مشكلة السلطة وعصبيتها التقليدية في اليمن الشمالية إذ كتب قائلاً: “أن منطق التطور التاريخي والعلم الاجتماعي أثبتا بأن القبيلة هي حلقة أدنى في سلم التطور الاجتماعي وهذا لا ينطبق على اليمن (الشمالي).. فإذا كانت القبائل تنتهي بطريقة ما إلى دولة، فإن الدولة غالباً ما تتحول هنا إلى قبائل وقد تتعايشان معاً على مدى مراحل طويلة إن الأفراد الذين يتكون منهم الشعب يشكلون بطريقة ما جمهوراً لم يكن ولن يكون بمقدور القبائل تشكيله” ومن المؤسف أن القوى التقليدية اليمنية والحديثة تشارك