- عبدالغني المخلافي
تحدثت عن طفولتي في عملي السردي (انثيالات على الورق) وفي عملي خيار العودة (يوميات أديب). ذلك الطفل في كنف جده بعد انفصال أبويه بعامه الرابع. طفولتي تركتْ جوانب إيجابية وسلبية أثرتْ وجداني وذاكرتي بأحداث ومواقف تمخضتْ في نصوص شعرية وسردية.تمردتُ بالمرحلة الابتدائية عن المدرسة ممتنعًا عن مواصلة التعليم بمراحله المتبقية. حفظتُ أجزاء من القران على يدي جدي. كان لدي حب الاستماع للحكايات وقراءة قصص الأطفال. تدرجتْ قراءتي بالسير الشعبية ثم الروايات والاطلاع على الشعر وحفظه.
تعلقتُ بممارسة كرة القدم ومتابعة أخبارها ومشاهدة مسابقاتها. كنت متيمًا بمسلسلات الأطفال؛ خلقتْ لدي حب المغامرة والتأمل ونسج خيالات وتصورات حول أشياء غامضة متعسرة على فهمي. كانت الشمس في لحظات الغروب تشدني بشفقها الأصفر والسحب المتشكلة على هيئة لوحات مختلفة.
هربتُ من المدرسة كأنني نفرتُ من كل ما يتعلق بالكتابة والقراءة. تلقيت النعت والسخرية من المحيط، تشكلتْ عقدة نقصٍ في شعوري. لم يكن باعتقادي سأكون كاتبًا أو شاعرًا في يوم من الأيام، المتعارف عليه الحاصل على التعليم الكامل يمتلك قدرة الكتابة والتعبير عن ذاته وعن قضاياه. لا أدري ما الذي جعلني أتعاطى مع القراءة و الكتابة وأنا في محيط لا يشجع أو يدفع إلى ذلك ويكشف مواهبك وينمي بذورك الخلاقة فقط إذا فشلت شمت بك وإذا تفوقت نظر نحوك بحسد. ربما تجربتي العاطفية أجرتْ أنهار الجمال بين جوانحي وبرعمتْ مشاعري على الورق.
في طفولتي كان ما يؤكد أنني خلقت لأكون أديبًا، لما كان ذهني عليه من تفتق وخيالي من جموح وما يتوالد لدي من أسئلة أبحثُ عن أجوبة لها، أكون كائنًا حرفيًا فيما بعد . كتبتُ محاولاتي الأولى في سن الخامسة عشرة وجدتُ من يقول: من أين سرقتها، كيف أكون شاعرًا وأنا لم أكمل تعليمي، لا أمتلك سوى الإبتدائية.
كان في نظرهم الشاعر صاحب شهادة عالية في التعليم.
عدم إيمانهم بمحاولاتي أشعرني بأنني كتبتُ ما يفوق سني وتعليمي،اعطاني دافعًا لتطوير أدواتي وثقافتي. محاولاتي الشعريّة كانت دفقات إلهامية مصحوبة بحالة شعورية إذا توقفتْ لا أستطيع إضافة كلمة، كوني حينها لا أجيد حرفية الكتابة؛ تجدها من حيث الوزن واللغة سليمة؛ كانت مؤشرات على موهبة تحتاج الصقل والاهتمام؛ لو وجدتْ الظروف المهيأة لنضجتْ باكرًا.
كنت أفتقر لصاحب تجربة كبيرة يوجهني، يضبط مساري.
بقيتُ أحاول أسقط، أنهض، أتعثر، ثم أمضي، لم يكن بحسباني الكتابة قدري، كنت أعبر عن مشاعري، نظرتي إلى الشاعر بأنه كائن خارق .في مقتبل شبابي نشرتُ في صحيفة الجمهورية وصحف أخرى، توقفتُ بعدها، كنت لا أكتب من أجل الكتابة، بل من أجل الإفضاء، ووجدتُ من يقول :لماذا توقفت؟!. بعد سنوات عاودتُ، اعتكفتُ ثلاث سنوات؛ كمرحلة تكوين ثم انقطعتُ بعد ذهابي إلى الغربة لمدة عشر سنوات وبعد أن شعرتُ بالتجزؤ؛ عدتُ من خلال الإنترنت، اقتنيتُ كمبيوترًا، اكتشفت عالمًا يزخر بالمعارف، نهلتُ من ينابيعه، شاركتُ في فضاءاته ، لم أكن أخطط للمضي بعيدًا وبعد إصداري الأول 2015في قصيدة النثر، حاولت التعامل بمسؤولية مع الكتابة..
قصيدة النثر فضاء بلا حدود أو فوارز أو محطات، الشاعر يمضي دون مكابح بتحليق حر. مغامرة مجنونة بطقوس معربدة. امتداد يتسع لجموح الخيال والغوص في لجج اللغة والبحث عن المدهش والمغاير من التراكيب والصور والانزياحات والمجازات والمفارقات. فسيفساء جماليات توصل إلى الشهقة والثمالة والتعجب. لوحة متعددة الأبعاد والإيحاءت والمضامين.
ثوبها متوافق مع تركيبي ورؤيتي وتفكيري وإيقاع حياتي المتحرر، غير منقطع عن الأشكال والقوالب الأخرى، إنما منعرج في فضاء رحب ومختلف، متمرد عن الأنماط المألوفة، المكررة، منفلت عن السائد؛ لا ألبث حتى أنقلب ولا أحتكم بأحكام وشروط ثابتة بقدر بحثي عن مواطن الارتقاء بالفن. أصدم المتلقي أجعله يستفسر، يندهش ويتساءل.
تأثرنا، لنا أن نؤثر، نخلق إضافة للمشهد المحلي والعربي، نُقرأ بأدوات تتناسب مع ابتكارات وتغيرات العصر.
لا نقف حيث وقف الأسلاف بالشكل واللغة. الجيد سيثبت، سيحتذى به وسيبتكر ألوانًا أخرى وهكذا.
الكاتب أو الشاعر ابن بيئته لا يمكنه الخروج عن إطارها؛ يتكون من طينتها وجدانه وماهيته وثقافته، إضافة إلى قراءته واطلاعه على تجارب أدبية وفكرية وفلسفية وشعرية تشكل لبنته الفنية، المنهجية ومفاهيم يرى بها ويحلل ويقيم وينتقد.
التراث منهله الأول، نواة معرفته، أدواته؛ بعد ذلك يطير بأجنحة في فضاء مناسب لسجعه وتغريده.
أردت بعملي السردي خيار العودة (يوميات أديب) نقل تجربتي، وحال كل يمني يركب الأخطار، يواجه الصعوبات من أجل لقمة عيشه، يدفع كثيرًا من أجل استقراره؛ عندما تُسَد في وجهه سبل الرزق لا سبيل أمامه غير العودة كيفما كانت، حتى وإن كان الوطن من جحيم فسيقبل فهو أقل وطأة من خارجه. دونت في القسم الثاني منه ما يصلح مرجعًا للمهتم بالكتابة، وطقوسها اليومية والتفاصيل والجوانب التي تعني بحرفيتها.
هناك من يراني ساردًا بأسلوبي بالحكي والتحدث والوصف. فالموهبة تتعزز بالقراءة. الموهوب يختلق عوالم يلتقط تفاصيل، يغوص في فضاءات واسعة وإن كان ينقل من واقعه.
بدون المخيال لا يمكن المضي بعجلة السرد والتوسيع وفتح الآفاق والانتقال والارتفاع والهبوط والإسراع والبطء. السارد يحتاج الاحتراف، النضج تماما حتى يمتلك اللغة، يبني بناءً محكمًا بلا هفوات أو فجوات، يمسك خيط السرد إلى النهاية بمهارة، فإذا لم يكن محترفًا سيظل يُشيد ويهد دون فائدة؛ ليصل إلى الاحتراف عليه بالممارسة المستمرة، فالكتابة ليست سهلة.
خيار العودة (يوميات أديب)
يمكن تصنيفه في قسمه الأول برواية وقسمه الثاني بالأدبي، اليومي،التأملي الفكري، القصصي؛ تربط بينهما ثيمة العودة من الغربة، حاولت الارتقاء بمستواه إلى الفن وجذب القارئ بتشويق وإن كنت استطعت أكون نجحت بعيدًا عن التصنيف. ثمة روايات لا تستطيع المضي فيها عشر صفحات حتى تجعلك بتفاصيلها وتشعباتها الوعرة تتعثر، وتفقد الإثارة المشوقة. هناك من يعتمد حشو تفاصيل وأحداث رغبة بالاستطالة.
بقائي خارج الوطن أثنين وعشرين عامًا سمح بتكوين أدواتي، انضج تجربتي، عدتُ بعد إصدار ستة أعمال أدبية، كونتُ شبكة علاقات وانتشار، وتواصل بالسوشيال ميديا.
لم أعد أحتاج واقعًا يحفزني أو بيئة تحرضني، فحراكي الافتراضي يتعاطى مع أقصى نقطة بالعالم. وتحديات الواقع لا تعيقني أو تعرقل مسيرتي.
محصن بما فيه الكافية. الواقع خدمني ووفر لي عزلة بلا اختراق أو منازعة. لو كنت أنغمست فيه ما أنتجت ما انتجته خلال عامين. صرت لا أستطيع المكوث مع جلسائي أكثر من ساعتين حتى أقتضب وأتشتت. اعتيادي على العزلة خلق مشاكل وتبرم الأهل والعائلة، فأحاول اقناعهم بتفهمي.
في عملي أستغل أوقات فراغي في القراءة والتأمل، ورصد دبيب الحياة واستثمار ذلك في الكتابة.
عبد الغني المخلافي شخص بسيط يحب الحياة، يجنح إلى السلم، الألفة. أتصالح مع الأفكار المخالفة لأفكاري وتوجهاتي بشرط لا تصادمني أو تؤذيني أو تقصيني، الاختلاف ملح الكون. عصامي بنيت جانبي المادي والمعرفي بذاتي، يومي بين القراءة والكتابة والعمل بعد أن صار منذ خمسة أشهر يأخذ معظم وقتي ولا يفسح لنشاطي الأدبي سوى النزر، مع ذلك لا تفوتني القراءة و الكتابة فقد صارت حياة أمارسهما بقدر استطاعتي. بعد عودتي من الغربة مكثت في عزلتي عامين أنتجت خمسة أعمال، أربعة شعرية وعمل سردي، بمجهود جبار ومثابرة جسورة؛ جراءها جنيت العداوات والحسد والغيرة؛ كوني مغايرًا، اخترت مسارًا جماليًا، ووجدت بالفن الأهل والأصدقاء والأقارب والوطن.
هناك كتابات كاشفة عن مواطن العوار والتشوهات توجد حلولًا معالجة ومسؤولة تحمل رؤية تنويرية ونقدية بحيادية بعيدًا عن النزوع الذاتي والحزبي والمذهبي، مغلبة المصلحة الوطنية المحضة، ساعية لترتيق الشروخ وتجميع شتات اللحمة، وهناك أخرى معول هدم وشتات، مثخنة للجروح، خالقة لبؤر الصراع والفرقة، نازعة نحو مصالحها الذاتية بأنانية، متاجرة بالقضايا الرئيسية بدعاوي حب الوطن والمواطن، هي بعيدة كل البعد عن ذلك؛ إنما تلوح فقط بشعارات براقة مكتنفة بالخواء والزيف مأجورة من جهات تعزز بقائها وتسيدها وإخفاء شكلها القبيح بمساحيق التطبيل والترقيع وتغييب حقيقتها المروعة.
لا أخطط أو أجدول ما سأكتبه وهل سيكون عملًا سرديًا أو كتابة مجموعة شعرية. أشرت بأنني أصدرت بعد عودتي من الغربة مجموعتين شعريتين – غرفة بعين واحدة – جباه طافحة بالقصائد” وعمل سردي – خيار العودة (يوميات أديب) وثمة مجموعة” كائنات التراب” قيد الطباعة ومجموعة” ماراثون الجحيم “قيد المراجعة، سأدفع بها عندما أجدها جاهزة إلى الناشر؛ آملًا أن يكون عملي القادم سرديًا من أجل التنويع وما فيه من مساحة واسعة لطرح الأفكار والرؤى والمزج بين الأجناس الأدبية والتضمين للقضايا المختلفة. سأحتاج فقط إلى فتيلي المشتعل وهمتي العالية وصحتي الجيدة. فمن يمتلك حرفية الكتابة والخبرة يستطيع أن يكتب في أضيق الظروف وفي أشد الالتزامات المتعلقة بالمعيشة.
رسالتي إلى القاريء لا ينتظر مني ما يوافق ذائقته، قد أكون صادمًا.. لا أكتب وفق شروط المتلقي.
يهمني أن أقدم عملًا متجاوزًا؛ وعليه أن يرتقي بذائقته .فلا شك طموحي أن أصل بكتاباتي إلى أوسع نطاق وانتشار وقبول؛ وهذا مبتغى كل مبدع. الكاتب اليمني يعيش ظروف تكاد تفقده قدرة النطق لكنه يتعاطى مع الكلمة؛ تبقى حصني من العلل لا أبحث عن المادة ولو أردت لانصرفت إلى عمل آخر، فثرائي البقاء مع تعاقب الأجيال.