- كتب: أحمد السلامي
الشعر بخير دائماً ويبقى في عنفوان الحضور بمن أخلصوا للحياة في القصيدة وبها، وهذه فرات إسبر، من بين قلائل من الشاعرات والشعراء عبرتْ بقصيدتها وسط الحشود، ووصلت من دون أن تلزم نفسها بأي نوع من السباق إلى واجهة مشهد الشعر الصافي، حيث الإصغاء لصوت الذات والتنفس بعمق بين الكلمات موهبة شفافة، لا يقوى عليها إلا من تجاوز الظن أن في شهوة الكلام وحدها شعر، وبلغ في صلته بالحرف ما بلغه ترقرق الماء في جدولٍ صامتٍ إلا من الفرح بجريانه في أوردة الطبيعة.
في مجموعتها الجديدة وهي السادسة “أطلس امرأة برية”2024، يُشع قلب الشاعرة ويحضر كل الذين أحبتهم، وتسأل وردة وخزتها عمن أضاف إليها صفات الناس!
وخزتني وردة
بكيت من جرحها
أيتها الوردة
من أضاف إليك صفات الناس؟.
يسهر الأرق في قصائدها أيضا وتحكي الجدران عن حزنها، وتتسابق الصور لترسم لوحات مرئية بطاقة التخيل، في مسعى شعري لا يتقصد إدهاش أحد، ولا يسعى وراء تلبية تنظيرات سابقة على النص، بقدر ما يختط لنفسه نهجاً في وعي الشاعرة بذاتها وبتجربتها، بوصفها حياة في أجواء من التأملات المنتجة للبوح الشعري المتجاوز للذات، ليتقاطع مع أنهار الآخرين من دون قصد، وهنا يتجلى الشعر من دون أي صراخ منبري أو حاجة إلى منصة غير النظرة حين تعبر بانتباه لتحنو على المعنى الأثير بين سطور ومقاطع نصوص، يجد القارئ في نسقها الشعري شفافية ورهافة خبيرة بالذهاب بالجملة في النص إلى النقطة التي تولد فيها الومضة غير المتوقعة.
تقول في قصيدة “الأجساد كتب تغطيها الأثواب”:
كبرت في العمر.
حذاء الزمن ازداد ضيقاً على قدمي.
السماء تفتح ذراعيها.
أرى حضناً واسعاً،
نصفه في الأرض
ونصفه الآخر في السماء.
قطبان يتجاذبان مع دوران الأرض.
في السنة الكبيسة،
نتوالد أرقاما في مفكرة ِالأيام
وأجسادنا كتب تغطيها الأثواب.
لم أسمع الشاعرة وهي تلقي قصائدها، لكني منذ أول كلمة في هذه المجموعة طالعت قصائد تستدعي أكثر من مستوى للتلقي، وسيفلح القارئ بمفرده في اقتطاف ملذات شعرية على هيئة شريط سينمائي تجريبي تصوره الكلمات وتترك أثرها ولمع بروقها في وجدانه. في المقابل ستكون لقصائد هذه المجموعة حياة ثانية بصوت الشاعرة لأنها تعرف أين النبع الذي يتفجر منه الحزن في كل قصيدة. ففي مقاطع كثيرة لا يمكنك وأنت تقرأ إلا أن تفسح لصوت الشاعرة حيزاً لتسمعها وهي تمنح نصها ما تشاء وما ينبغي له من حيوات وزفرات، مثل قولها:
افتح قفص صدري
وأطيّر عصافيره
يا أيها الإنسان: لا تكن سجاناً.
***
سيجد القارئ هنا في هذه المجموعة نكهة شعرية محيرة، لأنها لا تجري وراء تلبية الإيقاع المشترك الذي أصبح شعراء قصيدة النثر يتعارفون عليه وكأنه من ثوابت الإلقاء بل الكتابة نفسها. بينما تتحرر قصيدة فرات إسبر من هذا الإيقاع السائد حد الافتعال، وتمضي مع قصيدتها التي ليست سهلة كما تبدو لأول وهلة، وإن كانت تعتمد السلاسة في انتقاء الكلمات وعدم استدعاء الغريب منها، إلا أن الومضات التي تلمع في منتصف القصيدة أو تختتم بها تذكرنا بجزالة شعرية تضرب بجذورها في موروث القول الشعري وتلامس سقفه العالي:
أطارد المدى وأقطف ورده
وليس لي من الورد إلا جرح يدي.
وإذا لم ينجز الشعر مهمة الذهاب إلى منطق الشعر وجنونه وبراءته في آن، فإنه يخسر حضوره، وفي “أطلس امرأة برية” لا يحضر سوى الشعر وبكثافة، في تعاقب لقصائد تأخذنا في رحلة إلى عوالم داخلية تجمع بين التأمل والتصوف الذاتي إن جاز التعبير، وتقطير التجربة وخلاصات الرؤى تجاه الحياة والعائلة والزمن والطبيعة وأسلاف الأشجار التي تحولت إلى مقاعد:
أقتل أحلامي كل يوم ٍ
وأصلي عليها صلاة الغائبة.
بهذه البساطة العميقة تقول الكلمات في قصيدة النثر التي تكتبها فرات إسبر ما كانت تقوله القصائد المطولة، حين “تقول امرأة نذرت نفسها للماء:
أكتب الشعر ليطمئن قلبي”.
- هذه تحية أولى بمناسبة صدور المجموعة الجديدة لفرات إسبر، على وعد باستكمال التأمل في الجزء الأكبر من صفحاتها الـ134.