- كتب: سعيد الصوفي
لم يعد الإرهاب شيء مجمع عليه كما كان الحال في التعامل مع القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية ” داعش “، لقد تحول مفهوم الإرهاب إلى ورقة سياسية تلعب بها الدول بحسب مصالحها، ولذلك لم يعد للإرهاب مفهوماً موحداً، وإنما أصبح تهمة يوجهها الجميع ضد الجميع، كلما اقتضت المصلحة ذلك، ويصف أمين عام الأمم المتحدة انطونيو غوتيريش الوضع الحالي بـ ” الفوضى “، مشيراً إلى انقسام مجلس الأمن الدولي، وفي حين أن إسرائيل وداعميها الغربيون يوصمون حركة حماس ومنظمات المقاومة الفلسطينية بالإرهاب، والأتراك يوصمون الكرد بالإرهاب، وكذلك تتبادل أطراف الحرب في أوكرانيا تهمة ممارسة الإرهاب كل ضد الأخر، بل أن كل نظام سياسي يوصم خصومه السياسيين بالإرهاب، وهكذا وبدون معيار موحد للتفريق بين ما هو إرهاب حقيقي، وما هو مقاومة وطنية، أو تحرر وطني يسعى للتحرر من هيمنة وطغيان الاحتلال، أو ما هو معارضة سياسية تسعى للمشاركة في السلطة السياسية أو المطالبة بحق تقرير المصير أو ماهي حروب دولية.
كان أحد فلاسفة الليبرالية الحديثة ” أشعيا برلين ” قد قال :” إن السبب الأول للحروب الكبيرة والمجازر التي شهدها القرن العشرون، تمثل في إنكار التعددية لمصلحة إيديولوجية وأخلاقية في غير موضعها”.
ودافع برلين عن مفهوم يكتفي بتحقيق الحد الأدنى ويُظهر المفهوم “السلبي” للحرية الذي يتمثل في عدم التدخل في شؤون الآخرين، ومن ثم رفض أي مفهوم يركز على المفهوم ” الإيجابي ” للحرية؛ حيث كان يخشى من أن الرؤية الإيجابية للحرية، ربما تؤدي إلى اقحام أولئك الذين يعتقدون أنهم تمكنوا من تركيب حل المعضلة الكونية. أي أولئك الذين يعتقدون بوجود إجابة واحدة و” حل نهائي ” للسؤال الخالد ” كيف يجب أن أعيش ؟”.
ويرى برلين أن “هناك اعتقاد واحد مسؤول – أكثر من غيره – عن ذبح الأشخاص على مذبح المثل التاريخية الكبرى، ويتمثل في الاعتقاد بأنه يوجد في مكان ما – في الماضي أوفي المستقبل – حل نهائي “.
ويؤكد أنه إذا ما اقتنع الفرد حقاً بأن مثل هذا الحل ممكن، فعندئذ لن تكون تكلفة الحصول عليه باهظة – أيا كانت – ويضرب مثلاً لذلك قائلاً : ” خلال إعداد العجَّة ( Omelette) لا يوجد بالتأكيد حَدٌ لعدد البيض الذي يمكن كسره”. ومثلما كان هذا الأمر قد جعل قادة ومفكري كل من الفلسفات البرجوازية والماركسية ، يعتقدون بأن كل منهم قد وجد الحل الوحيد والنهائي . وقد ترسخ هذا الاعتقاد بصورة أكبر لدى مفكري وقادة الليبرالية الجديدة، وزعماء الغرب الرأسمالي الذين قاموا بتعميم نظرية العولمة على كل شعوب العالم، وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة، باعتبار العولمة هي الحل الوحيد والنهائي، لمشاكل العالم، وكذلك هو نهج أصحاب المذاهب والأصوليين الدينيين الذين يعتقد كلُ منهم أن الحل النهائي لمعضلة هذا العالم قد وجد عندهم فقط، وما عدا ذلك فهو الباطل بعينه.
وما نراه اليوم من صراعات وحروب لم تتوقف منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، بداية من تقسيم دولة يوغسلافيا الموحدة إلى عدة دويلات، مرورا بغزو أفغانستان، وغزو واحتلال العراق، ودعم الثورات الملونة ومنها الربيع العربي، وصولاً إلى الحرب الروسية – الغربية، على أراضي أوكرانيا، ومؤخراً ارتكاب مجازر الإبادة الجماعية في غزة، وبدعم أمريكي غربي غير محدود، وما ترتب على ذلك من مواجهات عسكرية في العراق وسوريا، والبحر الأحمر، وجنوب لبنان، إلا دليلاً قاطعاً على محاولة فرض هيمنة وسيطرة الحقيقة الواحدة، على كل البشر.
إن معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، بين حركة المقاومة الفلسطينية ” حماس ” في قطاع غزة من جهة وبين قوات الاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية، تؤكد مرة أخرى فشل الزعم بوجود الحل الوحيد والنهائي، وأن الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين وتشريد أهلها لا يمكن أن يكون الحل بقدر ما هو الباعث الأهم لاشتعال الحروب وتوسعها في منطقة الشرق الأوسط، وربما العالم.
إن محاولة القضاء على القضية الفلسطينية، وتشريد الشعب الفلسطيني من أرضه التاريخية، وحرمانه من حقوقه الأساسية، بغرس الاستيطان الإسرائيلي بدلاً عنه، باعتبار نظام الكيان الصهيوني هو النموذج الديمقراطي الوحيد حسب العولمة، في منطقة الشرق الأوسط ، فيما يعتمد هذا الكيان على احتلال الأرض واستخدام القوة، والإبادة الجماعية لسكان فلسطين، فإن الحل المطروح لن يكون أبداً حلاً نهائياً، ولن تبرره عمليات التطبيع مع بعض أنظمة الدول العربية مهما كان حجمها أو دورها، وإنما فعل كهذا لن يكون إلا بداية لحرب طويلة ستشمل المنطقة كلها وسيمتد تأثيرها إلى كل مناطق العالم.
مرَّ حتى اليوم زمن طويل على قرار محكمة العدل الدولية بشأن جرائم الإبادة الجماعية في قطاع غزة، التي نتج عنها حتى اليوم الستون بعد المائة من بداية الحرب في 7أكتوبر 2023،بحسب حكومة غزة ومكتبها الإعلامي سقوط أكثر من 31.341 قتيلا بينهم 13.790طفلاً و9.100 امرأة وأكثر من 7آلاف مفقود، في حين بلغ عدد الجرحى أكثر من 73.024 جريح ومصاب، وما تزال إسرائيل تمارس جرائم الإبادة الجماعية، وتهدد باجتياح مدينة رفح، التي تحتضن أكثر من مليون ونصف المليون نازح وساكن من سكانها وسكان القطاع، الذين أجبرهم جيش الاحتلال على النزوح إليها من جميع مناطق القطاع المدمرة، مما يشي بارتكاب كارثة إنسانية، في حين لا تبدو دولة الكيان الصهيوني مكترثة بالاحتجاجات الإنسانية، التي تجري يومياً في معظم عواصم ومدن العالم، ولا بمواقف دول العالم المحتجة على ذلك، ولا تقيم وزن أو اعتبار لقرار محكمة العدل الدولية، ولا تأبه لقرارات مجلس الأمن الدولي، ولا الجمعية العامة للأمم المتحدة، فيما تتوالى تصريحات القيادات الصهيونية، الداعية لتصعيد جرائم الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي للفلسطينيين، إما بالتهجير خارج حدود القطاع طوعاً أو حبراً ، أو بتشديد الحصار وتدمير الأحياء السكنية والمرافق العامة ، وتجريف الأراضي الزراعية والشوارع، والحرمان من الحصول على الخدمات الأساسية ( ماء- دقيق – كهرباء – صحة – اتصالات )، بمنع دخول المواد الإغاثية والطبية لسكان القطاع، والقتل بالجملة للسكان المدنيين، والتجريف المتعمد للبيئة، وآخرها شن حملة غير أخلاقية لمنع تمويل منظمة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( الأونروا )، وذلك لدفع السكان إما للجوء أو الهجرة الطوعية هربا من الموت، وليصبح القطاع خالياً من السكان، ثم تبدأ إسرائيل بعملية تهجير سكان الضفة الغربية والقدس، لتصبح بعد ذلك أرض فلسطين كلها خالصة لقيام الدولة اليهودية، وذلك هو ما كانت قد وعدت به الدراسة الصهيونية، بعنوان ” تحقيق السلام بدون عودة الأرض ” والمنشورة في العدد 14شتاء العام 1982، من مجلة كيفونيم / الحقيقة، الصادرة عن المنظمة الصهيونية العالمية، وقد تناولها الأستاذ/ محمد السماك، في العدد رقم 21 من مجلة الاجتهاد، الصادرة عن دار الاجتهاد للأبحاث والترجمة والنشر، في بيروت، خريف العام 1993.
وبالاستناد لهذه الرؤية التاريخية، ومواصلة الولايات المتحدة الأمريكية تقديم الدعم والمساعدة العسكرية والمالية، والدعم السياسي المتواصل برفض وقف إطلاق النار في القطاع، وكانت المرة الثالثة لاستخدام حق ( النقض / الفيتو ) ضد مشروع القرار الجزائري لوقف إطلاق النار يوم 20/2/ 2024، وذلك بعد رفضها للقرار 2712 بتاريخ 15 نوفمبر2023، والقرار 2720بتاريخ 22 ديسمبر 2023، مشترطة استعادة المحتجزين لدى حماس أولاً، واصرارها على ضرورة القضاء التام على المقاومة الفلسطينية ، ولذلك لن تلتفت دولة الكيان الصهيوني، لقرارات مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، أو قرار محكمة العدل الدولية، خاصة وأن المسؤولين الأمريكيين يشددون على مواصلة دعم الكيان الصهيوني للقضاء على ما يسمونه بالإرهاب كما قال النائب الأمريكي، أندي أو غلز: ” في الوقت الذي لا يظهر فيه تهديد الإرهاب بشكل فضيع فحسب ، بل يتم تشجيعه وتبريره ، من الأهمية بمكان أن نبذل قصارى جهدنا لضمان أمن أمتنا “. وهذا هو المسؤول الأمريكي الذي سبق له أن أجاب عندما سئل عن مصير سكان قطاع غزة المدنيين، الذين يقعون تحت القصف والإبادة الجماعية من قبل الجيش الإسرائيلي، قائلاً : ” فليقتلوهم كلهم “. وهذا أمر لن يساهم في تهدئة الوضع أو يحل القضية، بقدر ما سيؤدي إلى المزيد من خلق ظروف الاشتعال.
إن الاعتراف بتعدد الحلول والقبول بتنوعها مكانيا وزمانيا، والاعتراف بحق جميع الشعوب في نيل حريتها، وحقها في استغلال ثرواتها، وتقرير مصيرها، بدون تدخل أو وصاية خارجية، بما في ذلك حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الحرة والمستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، هو الحل الذي قد يجلب الأمن والأمان والاستقرار والتطور للمنطقة والعالم . وبدون ذلك سيظل العالم مجرد غابة تتصارع فيها الوحوش وكلُ يحاول أن يزرع فيها شريعته الوحيدة، لتغدو شريعة غاب بحق، وهي التي سيأكل بموجبها القوى الضعيف، وعندما يتصارع الأقوياء على هذا النهج، سيخرب العالم وسيعود بسكانه إلى العصور ما قبل الحَجَرية. هذا إن تبقى كائنات بشرية على وجه الأرض حينها.