- كتب: جمال حسن
كثيرا ما وضع سؤال حول ما هو الشعر. ليس لدي إجابة، يمكن القول بأنه كلام منظوم، وفقا للتعريف التقليدي لدى العرب. بالنسبة لأبو حيان التوحيدي أعذب الشعر ما هو شعر بصورة نثر أو نثر بصورة شعر. هذا وفقا لذاكرتي الضعيفة، أظنني قرأت هذا في كتاب زكي نجيب محمود “المعقول واللامعقول في التراث العربي” وذلك قبل أكثر من عشرين عاما.
مؤخرا وقعت في حب شاعرين، العراقي مظفر النواب ومن الكلاسيكيين أبو تمام. هذا الأخير أوصل الشعر العربي إلى قمة الزخرف، انه أبهى صورة للباروك العربي في الشعر، إذا اعتمدنا المصطلحات الغربية. عبر أبو تمام عن العصر الذهبي للارستقراطية العربية في بغداد، وجاءت محسناته البديعية متزنة وانعكاس مرهف لترف القصور. مع البحتري كانت المحسنات منحوتة ومتأنقة لكن شيئا ما يفتقر لها، لا أعرفه.
لكن النظم، هو عنوانا للاتزان، للموسيقى الداخلية، يمكن لأي شخص أن ينظم قصيدة كلاسيكية وأن يصقلها وفقا للبحور. لكنه سيفتقر لعذوبة الكلام، ما أعتبره التوحيدي شعر في هيئة نثر أو العكس.
أول القصائد المكتوبة جاءت من سومر، لم يكتشف السومريين الأوزان. فكان الشعر بالنسبة لهم، تعتمد على تكرار العبارات. لاحقا، اكتشف الأكاديين في العراق أيضا، الأوزان، لطالما كانت العراق موطن الشعر الأول وموطن البدع والأوهام. فلا بأس أن يبلغ الشعر العربي الكلاسيكي ذروته هناك.
اذن، ليس كل ما هو نظم شعر، لكل منا تقديره الخاص بالشعر، يمكن للمحسنات أن تأسرنا، لكنها تفتقد غايتها الحسية حين تصبح تصنعا مبتذلا. وكذلك النظم، الذي يغوص في الرطانة العاجزة عن احتواء ربات الإلهام. يقول مالارميه أن الشعر كلمات وليس أفكار. وبصورة ما يسبقه المتنبي إلى تصور مقارب حين يقول أنه وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري. ولست ممن يتلقفون الأحكام دون تمحيص. لكني لست بذلك الملم بالشعر العربي لأطلق أحكامي الخاصة.
ففي مرحلة من عمري، كنت أنفر من الكلاسيكيات العربية بوصفها نظم تشغله موسيقى الأوزان، مثل هذا التصور يتهذب مع الوقت. إذ كنت أنفر من قصائد أحمد شوقي، لأنه أعاد الشعر إلى عصره الذهبي الكلاسيكي، وبوصفه غير محدث أو مبتكر، لكن لاحقا سأدرك انه أستعاده بروح عصره. وبعد قرون من انحطاطه بابتذال المحسنات ثم بركاكة التعبير.
اذن، لا بأس أن يستعيد شاعر زخم القصيدة الكلاسيكية، حتى وأن عاصر السياب أو تبعه. ولنا في ذلك نموذجا هو الجواهري، فشعره منحولا من عذوبة الماء، وقوة البيان.
لست مع أولئك الذين يقولون أنه لا شعر إلا قصيدة عمودية، لكن أن تعود في عصرنا لهذا الشكل المنظوم عليك أن تضاهي بصورة ما شوقي أو الجواهري. أو على أقل تقدير عذوبة بشارة الخوري.
ففي بعض التصورات، قلت منبهرا بالصور التي يحملها الشعر الأوروبي أين نحن من أولئك. حتى غصت في عذوبة النواب، إنه كلمات تنهمر وفقا لتعبير مالارميه، عذوبة مشحونة بالحزن، تتقاطع فيها مجد بابل ببغداد القرون الوسطى. وقبله السياب. وفي النثر سحرني الماغوط بعفويته وانسيابه كطفل وحشي، نصفه بدائي ونصفه متحضر. تقاطع الصحراء بالهلال الخصيب. وهناك وديع سعادة الذي تكمن عذوبته من النثر في صورة شعر، ممثلا مقولة التوحيدي.
لدي أصدقاء أيضا استعذبت شعرهم، وحتى لا أنسى واحدا منهم سأغفل ذكر أسماء بعينها. لكن ما نراه اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي، يتعرض الشعر إلى مذبحة، مثل فنون أخرى، لن أبدي عجرفة إزاء سقوط الشعر في صناديق الأحكام الشعبوية. ولست مرجعا لألقي وصايا حول ما هو شعر من عدمه، لأن هناك عناصر للقصيدة تبقيها كذلك، ثم يأتي تصورنا عن ما هو جيد بغير ذلك. هل هناك قوانين بعينها نسقطها على الفن كما هي العلوم؟ بالتأكيد لا، وهذا ما يجعل الفن محط اختلاف، لكن مع هذا، هناك مجموعة عناصر يمكن من خلالها التفريق بين ما يمكن اعتباره ابداع من غيره. هناك أيضا اختلافات في الذائقة، ففي جانب هناك جانب تلقائي او عفوي، يقوم على الحواس، وهناك جانب مصقول، تنامى بالتعليم والثقافة والتلقي. انها مسألة تشبه التنمية الثقافية، والتي تتقد بعناصر متفردة. كما هو الحال في التعامل مع كلب صيد، وكلب أليف. هذا يفضل ما تعطيه من طعام جاهز اذ ركن للخمول، وذلك ما يطمح دائما للطرائد في البراري معتمدا على براعته في الاصطياد. والعقل المتقد هو ذلك الذي يحب الاصطياد على ما يقدم له في صحن جاهز، فآهليته تجعله ينفر من كل ما له صلة مع القطيع، أو ما هو مسرح إجماع.