- طه العامري
أعناق مشرئبة تتكيء على بقايا أجساد منهكة، وابصار شاخصة تحدق نحو نهاية لنفق البؤس القاتل، بؤس مغلف بتراجيديا صراع الوجود وسمفونية (شمشون) تصدح بترانيمها وتخترق مسامات السمع مؤغلة في صخبها العبثي لتضيف لضجيج الذات مزيدا من ممكنات الإنكسار..!
تمضي الأجساد المثقلة بالحزن في صحاري التيه بخطوات جنائزية تحملها أقدام معفرة بالدم والتراب.
أبصار شاخصة نحو عاصفة لولبية تشكلها ذرات من تراب الوطن علها تستشرف ما وراء تلك العاصفة اللولبية، فتري سرابا متلالياً، تنبت في النفوس المجدبة أزهار الأمل تزيد الأقدام المعفرة من خطاها نحو ذاك البريق المتلالي ضنا منها أنه مرسي الأماني المأمولة، لكن كلما ضنت إنها اقتربت من ذاك المرسي، تجد أن المسافة لا تزل شاسعة والفجوة أكثر عمقا بين الرؤية والواقع..!
تزداد اللحظة قساوة و قتامة، وتبدو الرحلة أشد مرارة فيما غيوم الأحزان تتكثف داخل النفوس المترعة نحو لحظة الانعتاق.
تتماهي في الوعي جدلية الحياة والموت ويتساوى الوجود مع العدم، وتبدو المتناقضات متوازية مع بعضها، ويغدو الليل كالنهار والباطل متشابه مع الحق والكذب والصدق منسجمان..؟!.
ثمة (موآل) بالكاد تسمع ترانيمه في تجاويف الوجدان، تذكرنا مفرداته بحكاية (البسوس) و(داحس) و (الغبراء) وعن (بطولات) الزير، وكليب، وجساس، وكيف كانوا أكثر (وعياً وتحضراً) منا ومن زماننا..؟!.
ترانيم أخرى أكثر وضوحا تصدح من تجاويف الوعي تشير مفرداتها بأن ( الموآل) يسخر منا ومن تداعياتنا ويزدري المشهد التراجيدي الذي نخوض فيه ونجتر فيه كل مثالب الماضي، الماضي الذي لا نزل نتمسك ونقتبس كل مساويه ونعيد إنتاج أسوأ ما فيه من مظاهر الجهل والتخلف.
يتشظي جدار الوعي، وتتمزق أوردة الهوية، وتزداد النفوس الأمارة بالسوء إيغالا في جلد الذات متسلحة بكرابيج الهزيمة والانكسار، تطفح على مسرح الحياة ثقافة الحقد والكراهية حافلة بمفردات النكران والتنكر والتهميش وإزدراء الآخر الاجتماعي، وتسن دساتير الأقوياء..!.
تندهش وحوش الغابة وتزداد خجلاً من هذا السلوك البشري، ترفع وجوهها نحو السماء متسائلة خالقها آهولاء من فضلتهم على جميع مخلوقاتك؟ آهولاء من أمرت الملائكة بأن يسجدوا لهم؟! ترتد بأوجهها نحو الأرض تستغفر ربها بلغتها وتتحسر على حال بني البشر الذين فاقوها جهلا وتوحشا..!
آهات متراكمة في تجاويف النفوس الحائرة التي بلغت مرحلة العجز عن البوح بمكنوناتها خشية من عقاب يضاعف من جرعات القهر اليومي الذي نتنفسه كالهواء..!.
نعم لم يعد هناك من يجرؤ حتى مع نفسه أن يبوح بما فيها، أو بما يجول بخاطره، بعد أن صار الوطن مجرد (معتقل) و(زنازين) وكانتونات مسيجة يتقاسم النفوذ عليها كليب، وجساس، والزير، وامروء القيس ببلاغته المشرعنة لثقافة انتصار الذات والقبيلة..؟!.
براكين من القهر تعتمل في أعماق النفوس، لكن حممها لا تكوي سوي حامليها الذين استسلموا لاقدارهم وقبلوا ب(اللضي) كقضاء عليهم الرضى به وفق جدلية (التضحية بالجيل الحالي، في سبيل أجيال لم تولد بعد) أي تدمير اليوم بمعتقدات الأمس من أجل الغد..؟!.
سردية فنتازية وكأن وطني يعيد إنتاج قصص وأساطير الاغريق الدامية، ولكن في قوالب جديدة مثيرة للانتباه ومغلفة بمذاقات تناسب جمهور المرحلة المكبل باغلال التبعية والتعصب ( لأمراء الطوائف) الذين انبثقوا من تحت ركام الانهيار ليس ك(طيور الفينييق) بل ك (خفافيش) الظلام الباحثة عن ممكنات العيش والظلام الآمن..!!.