- استطلاع: عمر القاضي
كانت الساعة تشير إلى الواحدة ليلاً. البرد قارس وشديد جداً. الشوارع والحارات فارغة ولا أحد غيرهم. إنهم المشردون وحدهم في الشوارع. كائنات العراء، والذي قررت مسبقاً للنزول ليلاً إلى الشوارع للبحث عنهم لإجراء هذا الاستطلاع الميداني عنهم ومعاناتهم مع برد الشتاء القارس.
لقد تسكعت ليلاً في شوارع العاصمة، وقد وجدت الكثير منهم في شارع الرقاص “هائل” وفي شارع الدائري وعلى رصيف سور الجامعة الجديدة والقديمة، وحي القاع، مروراً بشارع الزبيري، حيث يتجمع هناك عدد من المشردين للنوم جوار مولد مستشفى الجمهوري، وصولاً إلى ميدان التحرير وهناك انتهت زيارتي الميدانية جوار عدد من المشردين الذين ينامون في ممرات حديقة الميدان بين الأشجار، وآخرون ينامون جوار مؤسسة الوتاري المحاذية للميدان.
“رصيف بارد”
على أرصفة وشوارع هذا الوطن الباردة ينام عشرات المشردين، تجدهم إما تحت الأشجار وبمحاذاة الجدران الباردة، أو فوق وتحت السيارات المتوقفة دوماً ولا تعمل، يفترشون كراتين وفرشاً خفيفة ومتسخة أيضاً. يتغطون ببطانيات رقيقة أو بلحافات وشوالات.. جميعها متسخة وبالية ولا تفي بالغرض.
“يحرقون الكراتين والورق لتدفئة أجسادهم”
“علي رضوان” رجل خمسيني، نحيل البنية، صادفته أثناء زيارتي الليلية في أحد شوارع العاصمة صنعاء.. وفي وقت زيارتي للمكان كان ما يزال مستيقظاً ويحرق الكراتين بجوار خيمته الصغيرة التي بناها على الرصيف لأجل تدفئة جسده البارد.
وقفت جواره للحديث معه وأتدفأ قليلاً جوار النار التي أشعلها، حاولت أسأله عن حاله لكنه كان يرد على جميع أسئلتي، الله كريم- الله كريم، ويصمت.. حاولت أن التقط له صورة وقد منعني رافضاً وطلب مني قائلا: “امشي لك من هنا- لا لا تصورني!”.. لقد شعرت بانزعاجه من الحديث والصور أيضا. احترمت ممانعته تلك وتوقفت عن تصويره. توقفت عن سؤالي وبقيت صامتاً أتدفأ بالنار التي أشعلها لدقائق وغادرت المكان. وانتقلت مواصلاً الخطى باتجاه شارع الزبيري.
“مشردون حول المولد”
مع دخول فصل الشتاء من كل عام يتوافد عددٌ من المشردين إلى جوار مولد الكهرباء التابع لمستشفى الجمهوري للنوم، على دفئه الذي يخرج من “شبك حديدي”..
أثناء هذه الزيارة الميدانية وجدت سته مشردين جوار بعضهم حول المولد، منهم من كان نائماً ماعدا اثنين كانوا ما يزالون مستيقظين يشاهدون المارة. زمن ثم اقتربت من المستيقظين الاثنين لمشاهدة ملامحهم والحديث معهما. وقعدت جوار أحدهم لدقائق بعد أن حييته بتحية السلام، وقد هز رأسه لي ببطء وبقي يشاهد إليّ باستغراب. كان جسده النحيل المنهك مستلقياً بوضعية المتكئ على يده الأيسر، على وجهه التجاعيد وكل مآسي المعاناة والتعب. اقتربت منه لأجل أحدثه، لكنني بقيت قاعداً جواره بصمت، محدثاً نفسي عن ماذا أسأله؛ عن حاله مثلاً؟ فحاله واضح أمامي ومكتمل المشهد بحرمانه ونحالة جسده الجائع والمتعب. ومرة أحدث نفسي ماذا إن سألته عن سبب نومه هنا في الشارع وجوار المولد. أنا أعرف تلك الأسباب المتعددة بشكل عام والتي لا تختلف عن أسباب رفاقه وبقية المشردين. ولكن لماذا أسأله وأنا ليس لدي ما أقدمه له كحل بديل.. ولمعرفة أسباب تشرد مئات المشردين. سوف أسردها لكم لاحقا.
فضلت الصمت بدلاً من إيقاظ أحزان وذكريات وأسباب لا تنتهي لتشرده، ربما يكون قد نساها هو.
لقد سألت قبله مشرداً مسناً وجدته جوار سور الجامعة القديمة فكان ردّه لي محزناً، قائلاً إنه ليس لديه أقارب وهو مقطوع من شجرة، وليس لديه مال حتى يستأجر غرفة، أو يدفع أجرة النوم في اللوكندة يوميا، وبدوري أنفقت كل ما بحوزتي وناولته وغادرت. ماذا بوسعي أن أفعل أمام مئات المآسي والمعاناة ولا أملك سوى سماع أحزانهم ومعاناتهم وأسردها سنوياً بمادة صحفية ربما الجهات الرسمية تستجيب وتعالج معاناة هؤلاء المشردين.
كما سبق أيضا أن تحدثت مع مشردٍ آخر عن سبب نومه في الشارع. لم أكن أتوقع ردّه المحزن والموجع، قائلاً لي إن ابنه طرده من البيت، وعندما سألته ليش؟ قال لي تسألني ليش بسخرية، وصمت؟ وقد أفحمني برده هذا وفهمت ما يقصده المسن، لأنه لا يوجد مبرر وسبب لطرد الوالدين من قبل الأبناء ومهما كان السبب، وهذا ما قصده لي الرجل المسن.
سوف أعود إلى المشرد الذي يقعد جوار مولد الجمهوري والذي لم يكون لديه بطانية ولا فرش، كان لديه قطعة كرتون يفترشها تحته، ولديه لحية متوسطه بيضاء داكنة وحزن وألم يرتسم في تجاعيد وجهه، وقبل أن أقرر المغادرة تذكرت أنه طلب مني سيجارة وناولته نصف ما لدي من سجائر وغادرت المكان متجهاً إلى ميدان التحرير.
“ميدان وطني للمشرّدين”
في ميدان التحرير الواقع وسط العاصمة صنعا.، الميدان المخصص للمناسبات والفعاليات الوطنية وإيقاد شعلة الثورة اليمنية سنويا، الثورة التي حققت أهدافها كاملة وللجميع!!.. وللتأكد من ذلك انزلوا إلى حديقة ميدان التحرير وإلى بقية شوارع العاصمة صنعاء، وستشاهدون كم هي مكتظة بمئات المتشردين والفقراء!، وهذا هو أحد أهداف منجزات الثورة التي قامت لأجل العدالة والمساواة والتحرر من الظلم والاستبداد والجهل والفقر… إلخ.
في ميدان التحرير ينام أكثر من عشرين مشردا، منتشرين ما بين الحديقة والأشجار شرق الميدان وجوار مؤسسة الوتاري شمال الميدان. وقت الفجر وجدت عشرة مشردين بجوار أبواب محلات الوتاري. كان لدى البعض بطانيات صغيرة ومتسخة، والبعض لديهم لحافات مهترئة، وقد استغربت لماذا بالذات يرتص هؤلاء للنوم جوار ابواب محلات الوتاري المغلقة. في الليل لن تجد في هذا المكان نفسه غير أربعة إلى خمسة مشردين نائمين. البقية ينامون إما وسط الحديقة أو في حي المطاعم. وبعد الفجر تجد عدد النائمين جوار محلات الوتاري قد ازداد.. والسبب أنهم يأتون للنوم في هذا المكان وقت الفجر لأن الشمس بداية شروقها تشرق عليهم بعكس الحديقة التي تحجب الأشجار الشمس على أجسادهم المرتعشة من البرد.
“أسر وأطفال ينامون في الشوارع”
الفقر والحاجة والمؤجرون وعدم اهتمام الجهات الرسمية والمنظمات بهذه الشريحة كل ذلك سبب لزيادة اتساع شريحة المشردين وتوافدهم إلى رصيف وشوارع المعاناة.
قبل أيام نشر الناشط “ماجد زايد” على صفحته في فيسبوك، قال تواصل بي الآن أحد الشباب، بخصوص هذه الأسرة الفقيرة، أم مع أبنائها وبناتها، يفترشون الشارع بجوار “مدرسة جويرية” في حي شميلة بصنعاء، طردهم صاحب البيت للشارع، وحبس والد الأسرة، لأنهم لم يتمكنوا من دفع الإيجار مع المتأخرات،
وتابع زايد في منشوره: خلال الاتصال تحدثت مع الأم وكلمتها بغصة تقتل الرجال من قهرها وويلها، وقالت له الأم بأن عليهم مائة ألف ريال متأخرات الإيجار، وفي النهار جاء المؤجر وأخذ الأب للقسم وحبسه هناك، ثم عاد وأخرجهم من البيت.
وبحسب زايد فإن الأسرة تتكون من أم وسبعة اطفال صغار وثلاث بنات، وقد قام المؤجر بطردهم وأغلق البيت على عفشهم وممتلكاتهم.
وأكد أن هذه الواقعة ليست من الخيال، إنها حقيقة أيها اليمنيون، حقيقة لا تصدق مع ملامح تبعث القهر والخوف والجنون.
وقبل أسبوع نشر صديقنا “صالح مقبل فارع” قصة امرأة مسنة، قائلا: في الساعة 2:05 فجراً، وجد هذه العجوز على الرصيف في شارع التلفزيون، تحت تبة التلفزيون، قاعدة على الرصيف بين البرد.
وأضاف صالح قائلاً: إنه اقترب من العجوز وسألها عن سبب تأخرها إلى مثل هذا الوقت المتأخر من الليل بين هذا البرد.. فافتضت العجوز باكية وشرحت له حالتها بأنها مضطرة للخروج لأنها لم تجد قوت لأولادها، وقالت له إنه كان لديها بطانية تتدفأ بها فسرقوها عليها..
وبحسب صالح، فإن العجوز نازحة من الحديدة، وتسكن داخل دكان صغير في جولة عمران – صنعاء.
وتأتي إلى هذه البقعة يوميّا ولا تغادر إلا 3 فجرا..
“اماكن مخفيه يتخذها المشردين للنوم”
لقد صادفت مشردين يتخذون هياكل السيارات المتوقفة والمعطلة في الشوارع للنوم.
ومشرد ينام تحت مقعد حديدي وضعته إحدى الشركات التجارية كدعاية إعلانية لمنتجها قبل أعوام في الجامعة الجديدة، ويخرج من تحت هذا المقعد كل صباح. قال لي أحد المواطنين هناك: إن هذا المشرد ينام تحت هذا المقعد منذ سنوات، ولا يعرف الآخرون مكانه هذا أيضا ولا يضايقه. وهو لا يضايق أحداً. متخذاً هذا المكان سكنه الوحيد والمفضل.. ولا يضايق أحداً.
أما المشرد الآخر فلا يتوقع الكثير المكان الذي اتخذه ليستقر فيه لسنوات. لقد شاهدته بالصدفة ذات مرة وهو ينزل من فوق إحدى الأشجار في أحد الأرصفة، ولم أكن أتوقع ذلك، رغم مروري الدائم من جوار عشّه المخفي فوق الشجرة، إلا بعد أن تأكدت، وجدت أن المشرد (سبك) له عشاً يشبه الخيمة الصغيرة. معظم المارة لا يعرفون مسكنه، ومن يعرف أن المشرد معه عش، لا يعرف متى يغادر ومتى يعود إلى عش تشرده.
“هناك من ينظر للمشردين باحتقار”
لا توجد إحصائيات رسمية ولا أرقام ولا رعاية ولا أمن صحي ولا اهتمام اجتماعي أو أسري ولا حكومي، ولا حتى مبادرات خيرية خاصة أو منظمات حقوقية قد تحد من زيادة اتساع شريحة المشردين التي نشاهد ضحاياها يملؤون الشوارع يوماً بعد آخر، مفترشين كراتين وأسمالاً بالية متسخة ليناموا عليها تحت صقيع البرد ليلاً وحرارة الشمس نهاراً. حال المشردين في شوارع العاصمة محزن جداً. لكن للأسف نادراً ما نجد من يتعاطف مع هؤلاء المشردين ليساندهم ببعض الملابس والبطانيات والفرش والأكل، أما الغالبية العظمى فيشاهدونهم على أساس أنهم مختلون عقلياً أو مشردون يحبون التشرد والبقاء في الشوارع. ناهيكم عن أن بعض المارة من المواطنين ينظر إليهم بتقزز، ويتعامل معهم بكل احتقار وتذمر.
“تضاعف أعداد المشردين”
لا إحصائية دقيقة أو حتى تقريبية لعدد المتشردين في العاصمة صنعاء والمحافظات اليمنية الأخرى. لذلك أسباب عدة، أولها: لا توجد هناك جهات رسمية تولي اهتماماً بهذه الشريحة التي تتسع أعدادهم سنويا.
وثانيها: إن شريحة المتشردين لا يحظون باهتمام الجمعيات والمنظمات والمراكز المتخصصة، بل إنها وللأسف تتاجر بقضاياهم في مشروعات وهمية من أجل استدرار الدعم المالي من قبل المنظمات الدولية والدول المانحة.
ثالثها: إن المتشردين في تحرك وتنقل دائم في الشوارع وما بين المحافظات، ولا يوجد مكان خاص يجمعهم حتى يتمكن الباحثون أو الجهات المعنية من إحصائهم ورصدهم.
هنا سأكتفي بعبارة بدلاً عن رقم لأعدادهم، فالمشردون بالمئات داخل العاصمة، وأعدادهم في تزايد مستمر، وذلك لأسباب عدة، منها: الحرب على اليمن والتدمير للبنى التحتية للبلد وفقدان الكثيرين لوظائفهم ومصادر دخلهم، بالإضافة إلى انقطاع الرواتب، وهو ما أدى إلى تضرر الكثيرين، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار والإيجارات وتدهور العملة المحلية. كل ذلك فاقم معاناة اليمنيين، وأصبح العديد منهم متشردين في شوارع العاصمة والمدن الأخرى.