- د. قاسم المحبشي
فيما يشبه التحية للزميل الدكتور محمد أحمد العبادي المستشار الثقافي في السفارة اليمنية بالقاهرة بمناسبة تسليم ادارة لملحقية الثقافية لخلف جديد لا اعرفه. نتمنى إن يكون خير خلف لخير سلف.
حينما أزور الاسكندرية تنتابني مشاعر مختلطة من الحنين والحافز والأمل؛ الحنين إلى البحر والتاريخ المجيد وحافز استئناف الفعل واليقظة في اللحظة الحاضرة الزاخرة بالنشاط والحيوية والإنجاز والأمل بالمستقبل والتجاوز والإشراق. ذهبت أمس بصحبة الزميل العزيز المستشار الثقافي الأستاذ الدكتور محمد أحمد العبادي والأخ عبدالله أحمد المعلاوي والأخ محمد الحرازي بغرض حضور مناقشة اطروحة الدكتوراه للصديق الباحث علي ناصر محمد جبران. التقيته لأول مرة في المعرض الدولي للكتاب في القاهرة جاء من درة البحر الأبيض المتوسط؛الإسكندرية ممتلئ بالتفاصيل والجزيئيات الدقيقة، وجدته منشغلا ومهموما بالبحث عن الكتب الطبية المتصلة باختصاصه العلمي الدقيق إذ أخبرني بانه اختصاصي بالأحياء الدقيقة والتشخيصية يحضر الدكتوراه في معهد البحوث الطبية – جامعة الإسكندرية. حصل على درجة الماجستير بامتياز من جامعة صنعاء ، وشغل منصب رئيس قسم الطب والعلوم الصحية بجامعة العلوم والتكنولوجيا، كما عمل مشرفا على المحافظات الجنوبية في مكافحة البلهارسيا والديدان المعوية الأحرى في عام 2014. تجولنا في أجنحة المعرض. كل منا يبحث عن الكتب التي تهمه. أنا ابحث عن كتب الفكر والفلسفة والثقافة وهو يبحث في كتب العلوم الطبية. ومن محاسن الصدف أنه لم يجد ما كان يبحث عنه. واقترحت عليه يرافقني في جولتي في رحاب أجنحة الفكر الفلسفي. تجولنا وأخذنا بعض الكتب وعرفته على نخبه من المشتغلين بالفلسفة الذين التقيناهم في المعرض بالصدفة البحتة وعلى مدى أسبوع واحد من الرفقة تناقشنا في موضوعات كثيرة فاكتشفت فيه باحثا واعدا من عدن ويمتلك خبرة تقنية في مجال تنسيق الكتب والأبحاث في مختلف التخصصات.
كان شديد الحذر في الكشف عن اهتماماتك العلمية على طريق أهل اليمن في آخر زمن. وبعد أن اطمئن لي كشف لي بعض أعماله المنشورة وغير المنشورة وهي ( Etymology of Microbiology اصل الكلمة للاحياء الدقيقة) والثاني عن Microbial infection of Humans ،العدوى الميكروبية في الإنسان و Color atlas of Urinalysis اطلس ملون في تحليل البول) وجدت أن لديه معرفة واسعة في تخصصه الدقيق بعلم الجزيئيات التشخيصية . فحدثته عن العلاقة بين العلم والفلسفة. وكيف أن أهم الفلاسفة في تاريخ الفكر جاؤوا من أكاديمية العلوم منذ أفلاطون الذي كتب على عتبة أكاديميته العبارة الشهيرة( من لم يعرف الهندسة والرياضات لا يدخل علينا) منذ التقيت تنبئت له بمستقبل واعد في مجال تخصصه. وحينما تكون الاسكندرية هي الحاضنة يكون النجاح مؤكدا لمن يجيد يجيد استثمار الفرصة في مدينة العلم والفلسفة التليدة التي تحمل اسم اعظم فاتح يوناني هو الاسكندر الأكبر الذي انشاءها عام 332 ق.م. والاسكندر هو تلميذ الفيلسوف اليوناني الشهير ارسطو طاليس(384 -322ق.م) وهي مدينة العلم والفلسفة منذ أقدم العصور إذ اكتسبت هذه الشهرة من جامعتها العريقة ومجمعها العلمي “الموسيون” ومكتبتها التي تعد أول معهد أبحاث حقيقى في التاريخ ومنارتها التي أصبحت أحد عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. فقد أخذ علماء الإسكندرية في الكشف عن طبيعة الكون وتوصلوا إلى فهم الكثير من القوى الطبيعية. ودرسوا الفيزياء والفلك والجغرافيا والهندسة والرياضيات والتاريخ الطبيعى والطب والفلسفة والأدب. ومن بين هؤلاء الأساطين إقليدس عالم الهندسة الذي تتلمذ على يديه أعظم الرياضيين مثل أرشميدس وأبولونيوس وهيروفيلوس في علم الطب والتشريح وإراسيستراتوس في علم الجراحة وجالينوس في الصيدلة وإريستاكوس في علم الفلك وإراتوستينس في علم الجغرافيا وثيوفراستوس في علم النبات وكليماكوس وثيوكريتوس في الشعر والأدب فيلون وأفلاطون في الفلسفة وعشرات غيرهم أثروا الفكر الإنساني بالعالم القديم. وفي الإسكندرية ولدت وعاشت واستشهدت أعظم فيلسوفة وعالم رياضيات في التاريخ هيباتيا 370-415م تعد أول امرأة في التاريخ يلمع اسمها كعالمة رياضيات كما لمعت في تدريس الفلسفة وعلم الفلك.
والإسكندرية عبر تاريخها الطويل عرفت بمدينة المكتبات وأولها مكتبة الإسكندرية الملَكية أو المكتبة العظمى هي كبرى مكتبات عصرها، شيدها بطليموس الأول قبل ثلاثة وعشرين قرناً. تحتوى المكتبة على اكثر من نصف مليون من اللفائف. وفي الاسكندرية توجد اليوم أكبر واحدث مكتبة ورقية ورقمية في الشرق الأوسط تحوي أكثر من ثمانية مليون كتاب. فضلا عما تنطوي عليه الإسكندرية من كنوز أثرية خالدة وأثار تاريخية شاهدة ففي قاع بحرها متحف تاريخي يروي مغامرات شعوب البحر الأبيض المتوسط منذ أقدم العصور. هناك أمضى الباحث علي ناصر اليافعي عامان ونصف في معهد البحوث الطبية التابع لجامعة الاسكندرية وهو افضل معهد علمي طبي في الشرق الأوسط كما علمت.
استقبلنا الباحث مع مقدم الأصيل بكل هدوء وثقة ولم اشاهد على ملامحه قلق الباحث المدعو للمناقشة في اليوم التالي. كان وحده في ترتيب الامور اللوجستية وهذا ما أقلني إذ تذكرت ليلية مناقشتي لاطروحة الدكتوراه في جامعة بغداد. كنت منشغلا بالاطروحة ومنكبا على جمع فكرتها الأخيرة. كانت الاسكندرية في أوج زاحمتها الصيفية إذ طفنا لمدة ساعة كاملة بحثنا عن شقة أبات فيها ليلتي بعد أن تم ترتيب سكن للمستشار ومرافقيه في المندرة. سكنت بقربهم على مضض ونمت مبكرا واذا بجرس يدق في العاشرة ليلا. فتحت وإذا به الباحث علي ناصر بذاته. كان قلقا بشأن ترتيب سكنا أكثر من قلق المناقشة. قلت له: يفترض أن تنام مبكرا ولا تشغل حالك باي شيء أخر غير مناقشة الأطروحة. كان واثقا من نفسه إلى حد القلق بالنسبة لي. في الصباح ذهبنا إلى قاعة المناقشة في معهد العلوم الطبية وسط المدينة. اكتظت القاعة بالحضور النوعي من استاذة الطالب وزملائه وكان عند حسن ظنهم. كان موضوع المناقشة بعنوان ( طفرات بروتين النتوء الشوكي السطحي في فيروس سارس كوف ٢ بين المرضى في الاسكندرية، مصر). تكونت لجنة المناقشة من أربعة استاذة كبار هم الأستاذ الدكتور إجلال عبدالسلام الضريبي والأستاذ الدكتور عزالدين أنور صالح والأستاذ الدكتور داليا السيد متولي والأستاذ الدكتور سارة مجدي عبدالحميد.
قدم الباحث خلاصة عمله في عشرين دقيقة باللغة الانجليزية باستخدام البروبوينت بطريقة سلسلة وعالية الجودة. وعلى مدى ساعتين جرتت المناقشة الدقيقة فكانت النتيجة ممتازة جدا. إذ أثنت لجنة الحكم على جهد الطالب وتفوقه وقدرته العلمية في إنجاز اطروحته بوقت قياسي قلما يلتزم به طلاب الدراسات العليا في العلوم الطبية.ومما قالته اللجنة العلمية عن الباحث: انه نماذجا يحتذى به بين الطلاب وانه شخص عملي ذكي ومتعاون ومتفاعل مع زملائة واساتذته وكانوا دائما يعتبروه زميلا لهم ، كما ان لجنة الحكم والمناقشة ابدت اعجابها الشديد في الاطروحة وشكرت الباحث علي تصميمه بعض الاشكال في الرسالة حيث أوضحوا بانه لن يقوم بعمل كهذا الا شخص عبقري، وكان بين الفينة والاخرى وعند تصفح الرسالة من قبل اللجنة لمناقشته نجد كلمة شكرا دكتور علي، كما اعجبت اللجنة بسلاسة الرسالة إذ استخدم الباحث اسلوبه في تاليف الكتب في اعدادها ، وانا شخصيا اعجبت باسلوبه في الدفاع المشرف عن الرسالة حيث كان يشرح باسهاب ويضرب الامثلة على الواقع واعجبت ايضا بتشبيهه للمرض بفيروس كورونا مثل الكوارث الطبيعية التي تحصل في البيئة حيث اوضح ان تدخل الجهاز المناعي في الجسم يكون هو السبب في زيادة الامور سوءاً في محاولة من ذلك الجهاز وقال مثلا فيروسات الكبد ممكن تصيب الخلية وتطلع منها دون ان تقتل الخلية مباشرة ولكن نجد بعض المرضى عندهم نخر وتليف في الكبد وكل هذا ناتج عن تدخل الجهاز المناعي المبالغ فيه حيث ان اي خلية مصابة بالنسبة للجهاز لابد من تدميرها. واعجبت برده على كل الأسئلة بكل ثقه. وشكر الباحث اساتذته وزملاءه في القسم على جهودهم وتعاونهم بكلمات حميمة ومشاعر نابعة من قلبه دمعت لها اعين الحاضرين.
كانت فرصة طبية لزيارة الاسكندرية مع زميلي العزيز الدكتور محمد العبادي المستشار الثقافي الذي يحرص على مشاركة طلابه أفراحهم واتراحهم بروح عالية من المسؤلية والاهتمام النبيل. تذكرنا فيها أيام دراستنا الجامعية في جامعة عدن قبل خمسةوثلاثين عاما فيما يشبه الحنين للأيام الخوالي إذا كان رئيسا للمجلس الطلابي بالكلية والأولى على دفعته في قسم الجغرافيا وكنت أنا كنت الأولى على دفعتي في قسم الفلسفة وناشطا طلابيا. تذكرنا اسابيع الطالب الجامعي وما كانت تزخ به من نشاطات طلابية رائعة وربما كان لهذه الخبرة والتجربة في احترام العلم والتفوق الاكاديمي هو الحافز المشترك الذي حفزنا لحضور مناقشة اطروحة الدكتور علي ناصر محمد جبران الذي بثت فينا الأمل من جديد. فالف مبروك الامتياز للصديق العزيز علي ناصر ومبارك للمشرفين ولجنة التحكيم والمستشار الثقافي هذا الإنجاز العلمي المشرف. عدنا من الاسكندرية بمشاعر إيجابية أنستنا تعب السفر والبحث عن السكن.