- كتب: د. محمد السماك
لقد تجاوزت إسرائيل مرحلة التخطيط لتقسيم المنطقة وانتقلت إلى مرحلة التنفيذ. وبموجب التصور الإسرائيلي للتنفيذ ستكون هناك : ثلاث دول في العراق إحداها كردية سنية في الشمال، وسنية عربية في الوسط، وشيعية عربية في الجنوب،وثلاث أو أربع دويلات في سوريا، منها واحدة درزية، وثانية علوية، وواحدة سنية، وأربع أو خمس دويلات في لبنان، موزعة بين الموارنة والمسيحيين الآخرين،ودولة سنية وأخرى شيعية، وسيكون هناك أردنان : أحدهما للبدو وآخر للفلسطينيين من دون الحديث عن الضفة الغربية التي ستضمها إسرائيل، أما العربية السعودية فيرُاد إعادتها إلى الفسيفساء القبلية التي كانت قبل إنشاء المملكة عام 1933 بحيث لا يعود لها من الوزن سوى ما للكويت والبحرين وقطر وإمارات الخليج الأخرى. إذ يرى الإسرائيليون أن جميع هذه الكيانات لن تكون فقط غير قادرة على أن تتحد، بل سوف تشلها خلافات لا انتهاء لها، على مسائل حدود وطرقات، ومياه ونفط وزواج ووراثة الخ. ونظراً لأن كل كيان من هذه الكيانات سيكون أضعف من إسرائيل، فإن هذه ستضمن تفوقها لمدة نصف قرن على الأقل.
في الأساس ينطلق المفهوم الصهيوني من إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من الباكستان حتى المغرب، على أساس طائفي وإثني ، من الاعتقاد المبني على نظرية تقول أن الصورة الجغرافية الحالية للمنطقة، لا تعكس حقيقة الصراع. وإن ما هو على السطح يتناقض مع ما هو في العمق :على السطح كيانات سياسية لدول مستقلة. ولكن في العمق هناك أقليات لا تعتبر نفسها ممثلةً في هذه الدول،بل ولا تعتبر أنَّ هذه الدول تعبر عن الحد الأدنى من تطلعاتها الخاصة.
وبضرب الأحلام كنعصر جامع وموحد تبرز المتناقضات وتسهل بالتالي عملية استغلالهالإعادة رسم خريطة المنطقة وفق مقتضيات الأمن الاستراتيجي لإسرائيل. وهذه المقتضيات يحددها تقرير ” استراتيجية إسرائيل في الثمانينات ” . يقول الكاتب الصهيوني :” في العصر النووي لايمكن ضمان بقاء إسرائيل إلا بمثل هذا التفكيك. ويجب من الآن فصاعداً بعثرة السكان. وهذا دافع استراتيجي فإذا لم يحدث ذلك، فليس باستطاعتنا البقاء مهما كانت الحدود “.
ثم أن هذا المخطط الإسرائيلي لا ينطلق من عدم. هناك سوابق عديدة حديثة وقديمة. فهي وإن كانت فاشلة، فإنها لا تزال تشكل بذرة الشيطان، في أرض مقدسة. فقد حاولت فرنسا في مواجهتها لحركة الوحدة العربية في مطلع العشرينات من هذا القرن تقطيع سوريا إلى عدة دول يتمتع كل منها بالحكم الذاتي، منها اثنتان على أساس طائفي وهما دولة جبل الدروز ودولة العلويين.
ومن هذه السوابق التاريخية أيضاً اعتماد بريطانيا على الأقباط في مصر، وعلى الأشوريين في العراق وعلى اليهود في فلسطين.وكانت بريطانيا تخطط لإقامة دولة أشورية في المناطق الغنية بالنفط في العراق. ولكنَّ فشل المخطط عرّض الأشوريين إلى مذبحة شبيهة بمذبحة الأرمن في تركيا. فهاجر عشرات الآلاف من الأشوريين والأرمن إلى الولايات المتحدة وإلى لبنان حيث ساعدتهم هويتهم المسيحية على الاستيطان السريع.
وقبل ذلك جرت محاولة تقسيم جبل لبنان إلى دولتين درزية ومارونية استمرت خمسة عشر عاماً (1845- 1860)، ثم سقطت إثر سلسلة من المذابح الطائفية الرهيبة التي لاتزال آثارها منعسكة بصورة واضحة حتى اليوم.
غير أنّ زرع الكيان الصهيوني العنصري في قلب الوطن العربي وتحويل هذا الكيان إلى ترسانة عسكرية وإلى خط هجوم أمامي للدفاع عن مصالح الاستعمار الحديث،أدى إلى تنشيط فكرة دول الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية على نطاق واسع. وكان لبنان المدخل إلى التنفيذ وذلك لسببين أساسيين:
السبب الأول: هو أن لبنان حتى عام 1975 كان يطرح نفسه دولة مركبةً من 17 طائفة دينية مختلطة تتعايش في ظل ديمقراطية الطوائف وبصورة تؤكد إمكانية مثل هذا التعايش، بل وتحقيق الازدهار في ظله. ويتناقض جوهر الكيان اللبناني هذا مع جوهر الكيان الصهيوني القائم على عنصرية ” شعب الله المختار ” كما تتناقض ديمومة الكيان اللبناني وازدهاره مع المخطط الصهيوني لتجزئة المنطقة إلى دول إثنية وطائفية متناحرة.
السبب الثاني: إن حركة التحرير الفلسطينية اعتمدت في عام (1975) التجربة اللبنانية مثالاً لها. ودعت إلى الاقتداء بها لإقامة دولة في فلسطين يتعايش فيها – كما في لبنان – العرب المسلمون والمسيحيون، مع اليهود.
وقد أرادت إسرائيل أن تفشل هذه القدوة وأن تسفّهها لإسقاط شعار المنظمة ومشروعها. فبدأت في العام نفسه (1975) المؤامرة على لبنان لضرب وحدته الوطنية. وقامت من جراء ذلك سلسلة المذابح الطائفية التي أدت إلى فرز للسكان على صعيد طائفي ومذهبي. وشهد لبنان من المجازر البشعة على هذا الصعيد ما يكفي لتحوله من قدوة للتعايش بين المذاهب والإثنيات المختلفة، إلى تجربة تؤكد استحالة هذا التعايش تثبيتاً لوجه النظر الصهيونية. ومن هنا أهمية إعادة تعويم تجربة التعايش في لبنان في ضوء ميثاق الطائف للتصدي للمؤامرة الصهيونية التقسيمية. ومن هنا أيضاً الإصرار الإسرائيلي على تفشيل الطائف وإنهاك لبنان حتى الاستسلام للتقسيم، كمدخل إلى تقسيم كل المنطقة الممتدة من المحيط الهندي حتى المحيط الأطلسي.
إن المعادلة الاستراتيجية واضحة تماماً. وهي أن مزيداً من الاستنزاف العربي والإسلامي يعني مزيداً من الأمن الصهيوني ومزيداً من الديمومة للكيان الصهيوني. وفي ضوء هذه المعادلة أسجل الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى: إرتفاع حدة الصراعات العربية – العربية ليس فقط بين الدول العربية القائمة، وإنما أيضا، بين مجموعات طائفية وإثنية داخل الدول العربية نفسها. ونذكر على سبيل المثال ما يأتي :
أ- التمرد الانفصالي في جنوب السودان.
ب- المشكلة الكردية في العراق.
ت- إبراز الحركة البربرية في الجزائر والمغرب.
ث- الانقسام العنصري الزنجي – العربي في موريتانيا.
ج- إستمرار المراهنة على تجديد الحرب الأهلية في لبنان بأبعادها الطائفية الإسلامية – المسيحية .
ح- تحريك الأقباط في صعيد مصر، وإثارة الاضطرابات بينهم وبعض الحركات الإسلامية.
خ- إثارة النعرات المذهبية الشيعية – السنية في ضوء مخلفات الحرب العراقية – الإيرانية في كل منطقة الخليج العربي.
الملاحظة الثانية: إرتفاع حدّة الصراعات العربية – العربية في مشرق العالم العربي ومغربه وليست حالة التصدع التي تمر بها الجامعة العربية بعد أزمة الخليج بين العراق والكويت، وليس العجز عن استئناف عقد مؤتمرات القمم العربية سوى انعكاس مباشر لذلك.
الملاحظة الثالثة: إرتفاع حدّة الصراعات العربية – مع الدول غير العربية المتاخمة لحدود العالم العربي.
ونذكر على سبيل المثال :
أ- الصراع السوداني مع الدول المجاورة.
ب- الصراع الليبي مع تشاد.
ت- حرب العراق مع إيران.
ث- الخلاف السوري – العراقي مع تركيا حول نهر الفرات.
الملاحظة الرابعة: دعم التيارات الدينية ذات الصفة الارتدادية عن الإسلام كالقاديانية والبهائية وغيرهما، وذلك لتعطيل دور الإسلام كقوة جامعة وموحدة، ولإجهاض حركة الوعي الإسلامي مرة أخرى.
إن عالماً عربيا يواجه في الداخل والخارج كل هذه الصراعات يجد نفسه منصرفاً عن مواجهة العدو الحقيقي وهو الصهيونية المزروعة في قلب فلسطين. وإذا كانت مصلحة إسرائيل تقتضي تعميق وتوسيع هذه الصراعات كلها باستغلال التمايز الإثني أو المذهبي في العالم العربي، أي بإضعاف العنصر الموحد المشترك بينها وهو الإسلام، فإن من مصلحة العالم العربي حل هذه الصراعات والتغلب عليها بالعودة إلى العنصر الموحد المشترك وهو الإسلام.
والسؤال هو كيف يكون ذلك؟.
للإجابة على هذا السؤال اليوم، لابد من العودة إلى الوراء لاستلهام العبر والدروس من تجارب الماضي.
… يتبع الحلقة السادسة والأخيرة.