- كتب: د. قاسم المحبشي
(إذا كنا نقرأ في نفوس الآخرين دوافعنا وفهمنا نحن، فكيف لنا أن نفهم دوافعهم وفهمهم هم؟) مايكن كاريدرس.
يتواصل البشر فيما بينهم مستخدمين حزمة من اللغات المتعددة التي تتباين إلى حد كبير فيما تنقله من معلومات، ولطالما تساءل العلماء فيما إذا كانت اللغات المختلفة تعكس قدرات معرفية مختلفة؟ في السنوات الماضية برزت دلائل مبنية على التجربة والاختبار تشير إلى أن تأثير اللغة الأم قويا في الطريقة التي يفكر فيها الإنسان في شتى أمور العالم بما في ذلك المكان والزمن، والعقل والإنسان والخير والشر والعدل والجمال وهناك تلميحات تشير إليها النتائج البحثية الأخيرة؛ مفادها أن اللغة جزء لا يتجزأ من العديد من سمات الفكر التي لم يدركها العلماء من قبل. لماذا لم تعد لغتنا تعبيراً عن وجودنا الأصيل؟ وإذا أدركنا أن اللغة هي الوجود الذي يتكلم ويفكر ويعلن عن وجوده من خلالنا وبناء فان التفكير يحمل إلى اللغة في نطقها كلمة الكينونة اللامنطوقة فهل مازالت لغتنا المحكية والمكتوبة والمفكر بها تعبر عن حقيقة وجودنا وبيئتنا وسلوكنا وحياتنا الحاضرة المباشرة، أم أن الكلمات انفصلت عن الأشياء منذ وقتا طويل، وأصبحت أشبه بالقبعات المعلقة بالهواء بلا رؤوس؟ يقول العالم اللغوي التونسي محمد الجلالي: أن اللغة العربية هي اللغة الوحيد المعربة بمعنى أن أواخر الكلمات تتحرك فيها حسب موقع الكلمة في السياق والجملة إذ الكلمة في العربية تبدو راقصة مفعمة بالحياة والتوقد والفعل والفاعلية بعكس كثير من اللغات الأحرى. العربية هي اللغة الوحيدة التي ترفع فاعلها وهذه هو منطق الحياة النامية والصيرورة التاريخية والحضارية للشعوب الحية. أن يكون الفاعل مرفوعا فهذا هو منطق الفعل الحضاري الإنساني كقولنا الأمة التي تصنع دواءها، أو الأمة التي تصنع كساءها بينما الذي ينتظر حتى يقع عليه الفعل هو مفعول به منصوب والنصب في اللغة العربية هو عدم الحركة أو السكون وله معنيين النصب بالضمة بمعنى النصب التذكارية القديمة أو الأشياء المحنطة والنصب بالفتح هو التعب بمعنى العجز عن الفعل والبقاء في موضع المفعول به من فاعل أخر وتلك الخلاصة البالغة الأهمية هي التي أثارت اهتمامي وجعلتني أسمعت اليه بانتباه شديد. والسؤال هو إذ كانت اللغة العربية تتميز بهذه الخاصية الوجودية في بنيتها الداخليه فلماذا فقدت بعدها الحضاري وديناميتها الثقافية في مواكبة التاريخ والحياة؟.
إن المتأمل في واقع حياتنا الثقافية العربية اليوم سوف يلاحظ بغير عنأ ذلك الانفصال العقيم بين الدال والمدلول بين الكلمات والأشياء بين اللغة والوجود، فالكلمة لم تعد تعني المعنى الذي كانت تجسده ذات يوم، حينما بدأت لحماً ودما حياًً كما بدأت العبارات أيضاً (لحماً حياً) الحيوان والأعضاء والجسد والطبيعة والعلاقات والآلهة انبثقت من الواقع الحي لحياة الإنسان، ولم تكن هذه الرموز إلا تمثيلاً مباشراً صادقاً وحياً للأشياء التي تدل عليها. إذ أن كثيراً من الكلمات العربية ارتبطت بالحيوان والبيئة التي عاش فيها العربي في زمن ميلادها وكل كلمة أو مفهوم له مكان وزمان ولادة، وسياق نمو وتجربة وخبرة وسياق ممارسة , وعلاقات قوة , ونظام خطاب ومدونة لغة وفضاء فكر وحساسية ثقافة وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق تلقي .. الخ. ومادمنا نستعمل كلمات مختلفة بمعاني مختلفة فمن المهم أن نعّرف المصطلحات التي نستعملها ونحدد الدلالات التي نعنيها بها إذ ان كل تعريف تحديد، وكل تحديد سلب. كما للبشر تاريخ. فكذلك للكلمات تاريخها. إن كلمة “المتن” على سبيل المثال، بدأت بمعنى “ظهر الحيوان” بينما قد تعني الآن “أصول اللغة ومفرداتها” أو متن الكتاب، أي محتواه.. وكلمة “الابتكار” مشتقة من البكر أول الولادة أي حفظ لنوع، وبالبكارة عزوبة المرأة والباكر أول النهار والابتكار الإبداع والاختراع. وكلمة “الحب” حينما ينطق بها تعني وجود رابطة حميمة بين كائنين وتعني الألفة والاتحاد والعيش معاً. وأنا أحبك كما يقول هيدجر ليس مجرد تعبير عن ذاتي.. بل هو الوجود يعلن ذاته ويتجاوزها إلى الآخر إنها تعني أن الفرد الموجود يتجاوز انغلاقه طلباً للآخر ويؤسس الحب في الخارج خارج الذات المنعزلة وأنا أحبك هي شمولية الوجود الذي لا يعي نفسه إلا شاملاً إنها الجزئي ظاهرياً والكلي جوهرياً.هذا معناه أن الكلمة ليست تعبيراً عن ذاتها، بل هي حاملاً لمحمول، هي صوت الكينونة، هي رمز لشيء موجود، ولكنها ليست الشيء ذاته. وكما يقول موريس بلانشو، أن الكلمة في اللغات الأصيلة ليست تعبيراً عن شيء بل هي غياب هذا الشيء.. إن الكلمة تخفي الأشياء وتفرض علينا إحساساً بغياب شامل بل بغيابها هي ذاتها، وإذا أمعنا النظر في مملكة الرموز هذه أي اللغة سنكتشف أشياء مثيرة للدهشة، بل أن فيها من السحر والإثارة ما يأسر اللب ويلهب الوجدان، فما معنى الكلمات التي نقولها ونعيدها كل لحظة، ما أصل الأسماء وما معناها، من أين جاءت هذه الرموز والإشارات التي نستدل بها عن الأشياء وهل مازالت تعبر عنها بالفعل أم لا؟ أسئلة وقلق كبير ومثير بدأ منذ عقود قليلة يستعر في فضاء الفكر والثقافة الأوربية المعاصرة حول اللغة وأهميتها اذ تنبه عدد كبير من الفلاسفة والمفكرون إلى ما تنطوي عليه هذه البنية الثقافية الشاملة من عناصر وأنساق ودلالات لم تكشف بعد رغم أهميتها الحاسمة وفائدتها العميمة لبناء الإنسان. إذ ظهرت في السنوات الأخيرة فلسفات كاملة وضعت اللغة في صلب اهتمامها منها البنيوية، والأنتروبولوجيا الثقافية، والهرومنيطيقا والسيميائية وفلسفة اللغة وغيرها وفي هذا السياق تم بحث الملابسات العميقة للتقابل بين الثقافة الشفاهية والكتابية اذ قام علماء الإنسان وعلماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء اللغة بأبحاث ميدانية في مجتمعات الشفاهية الثقافة والكتابية وخرجوا بنتائج مذهلة وعلى درجة كبيرة من الأهمية حول نمط العلاقة بين الثقافة الشفاهية والكتابية وخصائص كل منهما.إذ تبين إن لكل فرد منا تجارب مختلفة وقوى ذاكرة مختلفة واستجابات مختلفة، وعادات مختلفة، وهذا يعود الى الخصائص الفردية والنفسية المتمايزة بين الناس، فكل انسان لديه اشياء يحبها أو يكرهها، تسره أو تحزنه، أي اشياء تؤثر فيه دون غيرها، وهذا يعود الى اختلاف انماط الحياة الثقافية التي نشا فيها الفرد، الأسرة، المكان، الجماعة المحلية، العلاقات بين الافراد واللهجة، وسائل الحصول على ضروريات الحياة من الخبز والماء والمسكن والملبس والزواج والتعليم، الطفولة والتربية والقيم والرموز ولكل الاشياء الحميمة التي يواجها كل فرد في حياتها الخاصة والعامة، بما في ذلك الأسرار والعقد والأحلام والآمال وطرق التعبير عن الذات، جميع هذا الاشياء تشكل ما يسمى ب الحياة الثقافية للإنسان.وإذا كان الإنسان هو الكائن الثقافي الوحيد، فهذا لا يعني بان الثقافة واحدة لدى جميع الناس، بل هناك تنوع لا حدود له يثري حياة الناس ويميزها بعضها عن البعض، الى الحد الذي يمكن القول: أن لكل فرد سمات ثقافية خاصة، وللإنسان بطبيعته السوية استعداد وقابلية هائلة للتنوع والتغير في حركة حية ديناميكية وهذا هو ما افضى الى تباين اشكال الحياة واشكال فهم الحياة وصور التعبير عن الحياة وسبل الأخذ بالحياة والتعامل معها. ومع ايمانا بالتعدد والتنوع نؤمن ايضا بان هناك ما يجمع بين الناس، انها وحدة مع الاختلاف، والتباين في اطار الوحدة، وهذة الفعالية والتفاعلية التي تنتج المجتمع القادر على التطور والازدهار المستمر. إذ أن التنوع والتغير هما في ذاتهما شرطان وجوديان أساسيان من شروط وجود الحياة الاجتماعية المضطردة بانتظام.في حين أن التماس الوحدة والتجانس والتماثل والتشابة هو التماس للموت، التماس لخاصية التجحر والجمود.ولما كانت اللغة، الكلام، بكل ما تعنيه من ابعاد ودلالات ثقافية واسعة هي جوهر الثقافة ومعناها العام ذلك لن المحصلة النهائية لـ”الثقافة” ثقافتك وثقافتي وثقافة كل إنسان هي مجموع اشكال ردود الافعال والتفاعل التي توجد في ذواتنا، والتي نسميها”القدرة على قراءة اللغة، فأننا سنولي عنايتنا لتحليل العلاقة التي يقيمها الناس مع “الكلمة”وما تثيره من انفعالات مختلفة فيهم. فالكلمة الواحدة في لغة من اللغات تثير استجابات متنوعة ومتباينة عند الناس حتى وأن كانوا ينتمون الى اللغة ذاتها فقد نتفق على ما يعنيه لفظ “بحر” من الناحية النحوية ولكننا نختلف في معناها الدلالي، وربما اختلف وإياك في التدعيات التي يثيرها هذا اللفظ في ذاتي، وذاتك فقد يثير لديك مشاعر الرهبة والخوف بسبب خبرة سابقة لك معه، أما انا فالبحر يحفز عندي مشاعر الفرح والهدوء والجمال. الخ. وجميع الكلمات التي نستخدمها في حياتنا اليومية تنطوي على هذة الخاصية التعددية في إثارة الاستجابات المتنوعة عند اناس ينتمون الى مجتمع واحد.ولعل الخليفة الراشدي علي بن ابي طالب-كرم الله وجهه- حينما بعث أبو موسى الأشعري للتفاوض مع الخوارج بعد معركة”صفين” الشهيرة، كان يدرك ذلك الفخ اللغوي، لهذا اوصى رسوله بالوصية التالية:”لا تخاطبهم بما جاء في القرآن ، انما هو كلام مكتوب بين دفتين ينطق بما ينطق به”الرجال”ولما كانت الكلمات تختلف في معانيها هذا القدر من الاختلاف فلا يستطع أحد أن يحدد التفسير الصحيح والمعنى الجامع المانع للكلمة، إلا في سياق التفاعل الاجتماعي والحوار الحي والمباشر، حيث لا يعرف احد ما يجب ان تكون عليه تلك الكلمة قبل ان نلتقي بها ونواجها ونجربها ونعيدها مرات ومرات حتى نفهم معناها. أن كلمة “فأس” التي كانت ترمز الى الاداة الرئيسية لشعوب العصر الجحري القديمة،من المؤكد إنها لم تكن تعني فأساً بالمعنى الحديث أو اداة مختصة لقطع الأشجار. هذا يعني إنه يستحيل معرفة معاني الكلمات حينما تنتزعها من سياقاتها الثقافية الاجتماعية المحلية أو القومية.كما يعني ايضا انه لا توجد معانٍ ثابتة وكاملة ومطلقة للكلمة في كل زمان ومكان. لكن هناك نمط من الأشخاص غير قادر على معرفة هذة الحقائق البديهية، حيث تكتسب الكلمات لديهم معاني محددة سلفاً وثابتة،وتجدهم يطابقون بين الكلمات والأشياء التي يعتقدون إنها تدل عليها، يطابون بين الدال والمدلول، بين اللفظ والواقع الذي قد منحوه في وقت سابق من تاريخهم جل احترامهم أو تقديسهم أو نفورهم، ومن ثم تجدهم اكثر هياجاً عندما يتم ذكر هذا اللفظ بقليل من الاحترام أو النقد، أو الحديث عن اللفظ الذي كان يثير ردود فعل ساخطة عندهم، بشي من الاحترام. فإذا كان السيد “س” يساريا، والسيد”ص” يمينيا، فان نقد الاشتراكية يثير غضب الأول ويسر الثاني والعكس صحيح. أن مثل هذة الإشكال من التجارب الثابتة مع الكلمات هي نوع من التحيز والتعصب الأعمى، ومثل هؤلاء يبدو وكان لديهم في ادمغتهم نقطة مكشوفة بحيث إنها لو مست بكلمات لا يرغبون بها يصير بها نوع من التماس الكهربائي الذي يحترق معها المصباح الكهربائي” المين سوتش”كله. ويعتقد الفريد” كورز يبسكي” مؤسس علم تطور المعنى العام”: أن مثل هذا النوع من الاستجابات المكهربة: هي استجابة التسوية في الهوية، ونحن نسمي هذا”ثقافة البعد الواحد” حيث يطابق أولئك الأشخاص بين جميع أنواع الحدوث لكلمة من الكلمات أو رمز من الرموز ويرون فيها شيئاً واحداً لا يتغير، فهم يساوون بين مختلف الحالات التي تقع تحت ذلك الاسم أو الرمز على إنها شياً واحدا.غير ان هذة الثقافة أحادية البعد، هي سمة فسيولوجية في الجهاز العصبي للانسان المتوحش، الذي ظل لزمن طويل يعتقد بالقوة السحرية للكلمة.. فالصيغة السحرية لم تكن تفعل فعلها الأ من خلال الاعتقاد الراسخ بقوة الكلمات على الخلق والفعل والحماية.وما تزال الكثير من عادتنا الثقافية اسيرة هذا المنطق من التفاعل والتقابل بين الكلمات والأشياء، وعلى هذا الاساس يتم النظر الى الكثير من الظواهر، غير المتشابهة على انها واحدة، فمثلاً عادة مايجمع الناس في احديثهم بين اشياء يصعب الجمع بينها.ولو أمعنا النظر في حقيقة هذة الالفاظ التي نجعل منها احكاماً عامة، لوجدنا انها تجافي العقل والحقيقة، فليس جميع طالبات كلية الآداب متماثلات، وليس جميع من يحفظون القرآن متساويين. وحينما ندقق في صحة احكامنا نجد أن فلانا(أ) هو غير فلان (ب) وأن المثقف (1) هو غير المثقف (2) وأن الغربي (1) هو غير الغربي(2) ويختلف عنه غربي(3)..الخ. والمسلم (1) هو غير المسلم٢؟ . الخ وهذة المعادلة تعني انه بدلاًمن التفكير الساذج والبسيط الذي يعتمد على توصيفات جاهزة عن الناس ومعانيهم وعلاقاتهم وثقافنهم فان علينا التفكير في الاختلافات القائمة، والتمايزات الواضحة بين شخص وآخر. بين كل بقرة وأخرى، أما في الليل فجميع البقر سوداء”. وليس كل بيضاء شحمة ولا كل حمراء جمرة . ولا كل ما يلمح ذهباً… الخ. وفي دراسة حديثة أكدت الباحثة الأسترالية ليرا بوروديتسكي، إن للغات التي نتحدث بها تأثيرا في رؤيتنا للعَالم، إذ اشارت إلى إن سبب عدم قدرة الناس على فهم عالمهم وفهم بعضهم بعضا يكمن في لغاتهم، فاللغات يمكنها أن تفتح أفاق التفكير الإيجابي الفعال أو تكبله بقيودها وأطرها السابقة التكوين والمكتملة الدلالات والمعاني الميتة إذ كتبت: إن السمة المميزة للذكاء البشري هي قدرته على التكيف، وقدرته على الاختراع وعلى إعادة ترتيب تصوراته للعالم بما يتناسب والأهداف وكذا البيئات المتغيرة. وما التباين الكبير في اللغات التي انتشرت في أرجاء هذا الكون إلا نتيجة لهذه المرونة. حيث توفر كل لغة أدواتها المعرفية الخاصة بها محتضنة كل ما طورته حضارتها عبر آلاف السنين من معرفة ورؤية للعالم. إذ تمتلك كل واحدة منها أسلوب إدراكًا وتصنيفاً وتفسيراً لهذه الرؤية، بل دليلاً قيماً طوره وصقله أجدادنا. والأبحاث التي تجرى حول تأثير اللغات التي نتحدث بها في أسلوب تفكيرنا تساعد العلماء على كشف كيف تتولد المعرفة لدينا وكيف يتشكل الواقع وكيف أصبحنا أذكياء ومتحذلقين. هذه هي البصيرة التي تساعدنا بدورها على فهم جوهر ما يجعلنا بشراً”.
أن اللغة هي ظاهرة شفاهية في الأصل فحيثما توجد جماعة بشرية تكون لها لغتها وفي كل الأحوال تكون هذه اللغة أساساً لغة محكية مسموعة في عالم الصوت. ويرى العالم اللغوي (أدمتسن) “بأن ليس هناك من بين 3 آلاف لغة نتكلم بها اليوم سوى ما يقرب من 78 لغة فقط لها أدب مكتوب” وتوسع الكتابة من إمكانيات اللغة بصورة تكاد تفوق القياس تقريباً وتعيد بناء الفكر والكتابة تعطي اللغة قوة تند عن تلك التي تكون لأي لغة شفاهية خالصة.ويلاحظ المفكر الأمريكي “أولتر أونج” في كتابه إلهام “الشفاهية والكتابية” لا نكاد نعثر في عالم اليوم على ثقافة شفاهية لا تكون بشكل ما على وعي بالمركب الثقافي الشاسع الذي لا سبيل إلى بلوغه أدباً من دون الكتابة، إن هذا الوعي هو بمثابة عذاب نفسي لأولئك الذين تأصلوا في الشفاهية الأولية، أولئك الذين يرغبون في الكتابية بوجدان مضطرب ولكنهم يعلمون تماماً أن الانتقال إلى عالم الكتابية المثير يعني كذلك أن يطرحوا ورائهم الكثير مما هو مثير وأثير في علمهم الثقافي الشفاهي السالف، إننا مضطرون إلى أن نموت لنبقى أحياء. فما هي الديناميات النفسية للثقافة الشفاهية يا ترى؟ في غياب الكتابة لا يكون للكلمات في ذاتها حضور بصري، بل مجرد أصوات. نستطيع أن نستعيدها مراراً ونتذكرها كما هي عليه.هكذا إذن يشكل الصوت المسموع المنطوق جوهر ومحور الثقافة الشفاهية، لكن الصوت كحاسة إنسانية يحدث في الزمن مثله مثل كل الإحساسات الأخرى، غير أنه يتميز بعلاقة خاصة بالزمن وتميزه عن غيره من الإحساسات الإنسانية الأخرى مثل البصر، اللمس، الشم.. الخ. ذلك لأن الصوت لا يوجد إلا عندما يكون في طريقه إلى انعدام الوجود، فليس ثمة طريقة لإيقاف الصوت وتثبيته فيمكنك إيقاف آلة تصوير متحركة وتثبيت الصورة على الشاشة ولكن إذا أوقفت الصوت فلن يكون لديك شيء سوى الصمت فحسب، فالصوت يقاوم مقاومة كاملة محاولة التثبيت، فالبصر يمكن أن يسجل الحركة ولكنه أيضاً يمكن أن يسجل السكون، بل أنه في الواقع يفضل السكون عن الحركة فلكي نفحص شيئاً عن قرب ببصرنا يستحسن أن نمسك به ساكناً. لكن الصوت وحده هو الذي لا نستطيع العثور عليه إلا في حالات الحركة أي لحظة ميلاده المباشر الذي ينعدم ولا يترك أثراً مميزاً كما هو الحال في الثقافة الكتابية اذ تشكل الكلمات المكتوبة بقايا وآثار منقوشة أو مخطوطة في نصوص وعلامات ورموز تقاوم الزمن ونستطيع أن نقرأها أو نراها أو نلمسها في أي وقت ومكان على هذا النحو تعلي الثقافة الشفاهية من القدرة على التحكم في أنماط التعبير وفي العمليات لفكرية ذاتها، فالمرء الشفاهي لا يمكنه من تذكر إلا عبارات وكلمات محدودة ومسموعة ومكررة ومن ثم فإن أنماط التفكير نفسها تضيق هنا لكي تكون حافزة للتذكر الدائم.وكلما زاد الفكر المنمط شفاهياً تعقيداً زاد اعتماده على العبارات الجاهزة المستخدمة بمهارة والقانون نفسه في هذه الثقافات مكنون في أقوال معتمدة على الصيغ في أمثال وعبارات لا تكون مجرد زينة شفاهية مضافة إلى التشريع بل تشكل هي نفسها القانون الفعلي ولا توجد ثقافة خارج الصيغ والعبارات الجاهزة والمتناقلة لأن الصيغة تساعد الذاكرة وتقويها.ولهذا السبب تزدهر في الثقافات الشفاهية أنماط ثقافية محددة، مثل الشعر والحكم والأمثال والحكايات والأساطير. ومن سمات الثقافة الشفاهية يذكر أونج:
- عطف الجمل بدلاً من تداخلها، اذ تكثر حروف العطف بشكل ملحوظ.
- الأسلوب التجميعي في مقابل التحليل.
- الأسلوب الإطنابي أو الغزير.
- الأسلوب المحافظ والتقليدي.
- القرب من عالم الحياة وردود الأفعال المباشرة، وعدم التمييز بين الكلمات والأشياء.
- لهجة المخاصمة، وغياب الحياد الموضوعي.
وختاما: هل آن لنا أن نتخلص من الغريزة الحيوانية في التعامل مع العالم والاشياء والناس؟ فاصابع اليد الواحدة غير متساوية. وعلينا ان نتذكر دائماً. “من أن الجبن هو الجبن في نظر الفأر، ولهذا السبب تودي مصيدة الفئران عملها”.ان التفكير السليم هو ذلك الذي يستطيع رؤية الاختلافات واكتشاف الخصائص المتفردة بين الاشياء، اما العادات العمياء والكسل البليد سيكتفي فقط برؤية التشابة والتماثل، على نحو الذي يرى أن جميع الصينيين متشابهين! لقد شهد العقد الماضي العديد من البراهين الخارقة ما يؤكد على أن اللغة تؤدي فعلاً دوراً سببياً في صياغة المعرفة. فقد أشارت الدراسات إلى أن تغيير الطريقة التي يتحدث بها الناس تغير أيضاً أسلوب تفكيرهم. فتعليم الأفراد كلمات جديدة تتعلق بالألوان، على سبيل المثال، يغير من قدرتهم على التمييز بينها. وكذلك تعليم الأشخاص طريقة جديدة للتحدث عن الوقت يزودهم بطريقة جديدة للتفكير فيه.