لا يبدو في تجربة الروائي المصري مصطفى البلكي، أي أثر لشغف الكتابة عن الفضاء المديني، الذي تتزاحم في الكتابة عنه وحوله تجارب كتاب وكاتبات عرب كثر اليوم، في زمن يوسم بأنه زمن المدينة التي لاتضيق بها كتابة الرواية، في حين تضيق المدينة ذاتها على الواقع بأفق السرد الباحث في متون متشابهة، إلا قليلا.
بيد أن البلكي هنا يحفر مجرى الحكاية باستحداثات لغة سلسة لاتحاكي ظلال أمكنتها، بقدر ما تنقب عن الجديد في حكايات مضت، والهامات قادمة من مستقبل تقترحة لحظة الكتابة الروائية دون قحام،
لحظاته لها أثر ومخزون وأكثر من ميراث قد لا يسلم نفسه للكاتب هكذا بكل سهولة، فيما تطبع البيئة كاتبها بمياسم الطفولة وبحر التذكر، وأنهر من التدفقات التي تنهل من ينابيع ومصادر اثيرة كطفولة الروائي،و كما هو الحال مع ابن “عرب الأطاولة” الصعيدي القادم من حداثة أسلوبية مجددة تميزه، واساليب يروي من خلالها بغزارة حدث أمكنته دون اسهاب في مقاربة الأثر السابق على الرواية، قدر ما تبتكر لغته أمكنة ومتونا مشبعة بحيوات، وأزمنة خاصة تثري وتضيء بلغة السرد، وشعرية السياق الثقافي المتحول في صيرورة علاقته باللغة والمكان، وتجاورات الزمن الروائي وتخييلاته وانزياحاته المتعددة..
- حوار: محيي الدين جرمة
- تبدو في تسريد أمكنة “الأطاولة” شبيها بعامل منجم، بما تكتنزه تجربتك من مصادر تنطلق منها روايتك القديمة والجديدة بصورة أو بأخرى، كيف يتعين المكان في علاقتك بلغة السرد، وما راكمته من خبرات أسلوبية، وتقنيات تؤثث عبرها علاقتك بقارئ يتجدد شغفه مع كل رواية جديدة لك؟.
سأحدثك عن عرب الأطاولة, هي فضاء واسع للبوح, علاقتي بها قديمة قدم وجودها هي, هذا الوجود الذي سحرني, استطعت أن أربط الأماكن فيها بالكثير من الحكايات التي وصلتني , فكنت المسافر عبر الزمن, ترافقني الروائح المميزة, دائما هي دليلي, وكان أول ما لفت نظري, قدرة تلك الروائح على خلق عالم له ما يحدده, عالم يتماوج حتى في أوقات الراحة, يعيد سيرة الأماكن المرتبطة به, حتى جاءت الفترة التي بدأ فيها التغيير, بفعل المال المجلوب من بلاد النفط،
وقتها كنت أقترب من اتمام مرحلة التعليم الابتدائي, هُجرت معظم البيوت القديمة, واتجه الناس إلى الأطراف, وإلى البناء على الأرض الزراعية, فوجدت بيئة مختلفة, لا جمال فيها, وبقيت البيوت القديمة قائمة, تقبض على صمتها, وعلى الظلال, وروائح من سكنوها, ويتم احتواء هذا الصمت بزيارات متباعدة, لجني البلح, أو لأخذ التبن المخزن فيها, في مشهد يظهر فيها الزائر كأنه يفر من قدر لا يحب أن يعود إليه, وفي اللحظة التي يغلق فيها الباب تتصارع الظلال خلف باب لا يُسمح لها بأن تغادر في تلك الفترة بدأ عقل الطفل الذي كنته يعي مقدار التغيير الذي يحدث حوله, وظل معي, هو وحده الذي مهد لي أن أمارس رحلة الهروب فيما بعد, من إطار خانق إلى براح كان بمثابة الحديقة الخلفية التي تأخذني بحنان إلى بهاء وجمال وتفاصيل ما فيها,
ألبس رداء الناسك الذي لجأ إلى دوحة تمده بما يعينه على البقاء, والتعلق بطيف السعادة المفقود, فكنت في بعض الأحيان, أنا العائد, الذي يسير في دروب وشوارع لا أحد يسكنها, مفردات تعيش لحظات هزيمة ووحدة, فخلقت الصورة داخلي جيشا كنت قد رتبته في صورة حكايات وقصص, وكل مفردة تناضل في سياق فيضان جاء, وكلما منحني الكثير من مخزونه, أعود لنفس الرحلة, وأجدني في نفس العالم المهزوم, الممتلئ بالندوب, وأنا أتحرك ولد التحالف السحري بين الحاضر بكل ما فيه, وبين ما كان بكل ما وضعه داخلي, فكنت أتحرك وأنا أدرك أنني أعيش لحظات حية في متحف مفتوح,
ترافقني في رحلتي مجموعة من الوجوه, أنتبه إلى صمتهم, وفي منعطف ما أجلس وأتأملها, وأدير حوارا , فتخرج الوجوه وهي راغبة في الحياة مرة ثانية , فأخضع ثم أجلس على مسافة تتيح لي المراقبة أتابع مولدها ونموها, وحركتها, والأفعال التي قامت بها, والتي كان يجب أن تفعلها, فالمرء حينما يُمنح فرصة ثانية, يصبح الناجي , وحده من يغير من طبيعة الأحداث التي مرت عليه لتتوافق مع رؤيته بعد أن عاش شكلها في نسختها الأولى, تلك الحياة هي التي تعيد تشكيل المكان في صورته التي كانت والتي أصبحت عليه ليكوّن عالما خاصا يتناسب مع رؤية من يعيش أيامه.
- من بين أحداث الرواية في جزء منها، يعود بطلها إلى مكان نشاته بعد غياب ما يقرب من ثلاثة عقود، فهل للإشارة الى 2011، دلالة في طبيعة عودة الشخصية إلى مرحلة ما سمي، ب”الزلزال” الذي اجتاحت تغييراته وارتداداته أغلب بلدان المنطقة العربية؟.
المنافسة الحقيقة للإنسان ألا يصنع مستقبلا من مفردات يومه, بل أن يكون متصالحا مع الماضي, وكل ما حدث فيه, ربما أحيانا الفضول أو التعاطف مع شيء ما حدث يكون أول الصفحات التي تتطور خلال تلك العودة,”واد جده” كانت عودته من أجل الوقوف على ما يجري, والإجابة على السؤال الملح: لماذا أنا هنا في 2011, ومن أجل الإجابة وجب عليه أن يبدأ من حيث جاء, وفي أي سياق زمني وجد, فكانت 1952, ليصبح بعد ذلك جزءا متواطئا مع الدفع بالحياة للأمام في طريق سيورثه الكثير من الهزائم والانتصارات, وتلك العودة في مجملها ساعدته على فهم الحياة, ومنحته أجنحة.
- إلى أي مدى استطاع بطل روايتك “واد جده” أن ينجح في نسج ما يبدو أنها حيوات، مآلاتها التشظي، والتذرر، أو التآكل، والنسيان؟.
عودة واد جده إلى الماضي, عودة إلى غرفة الذكريات وهو في عمر الستين, وتلك الغرفة فيها ما حدث, وروح ما حدث, غرفة تتراكم فيها الأحداث بكثافة كبيرة, والحياة فيها في معظمها صامت, وخطورة العودة لمثل هذه الحيوات, يتمثل في أفضلية الصدارة, فالمشهد يكون ملكا لمن يملك الصوت الأعلى, من يملك أن يطوره, وليصبح في سمة الاسطورة, وهو إذ يفعل هذا يلجم العقل, وهذا الاغراء يصيب كل من في الغرفة بعدوى الحياة, ويبدأ هجومها, وهذا التزاحم ينتج عنه الاختيار الذي لن يكون تراتبيا, بل انتقائيا , ومشظيا.
- تستعيد الشخصية الرئيسة في روايتك ما قبل الأخيرة ماجرى لها أبان 1952، عند هجرة الجد والجدة إلى الاسكندرية، تحولات الحدث والأمكنة والتاريخ إلى أي مدى يكسب الرواية نضارة واستدامة وحيوية في تصورك؟.
التحولات المكانية المتعددة, تعد أحد أهم عوامل المتعة في العمل الروائي, فالمدن مثل النساء, منها الواضح والغامض, والذي يقيم الحياة داخل الفرد بود, ومن تكون قسوتها شديدة, والبين بين تلك التي تبني اخلاقيات مشبوهة بوتيرة متوقعة, تكون في تفاصيلها مرغبة ومقلقة كحياته في أسيوط..
وفي سياق حياته, أصبحت مدينة المولد غائمة, كل مروياتها من خلال جده وجدته وهذا الأمر يتواكب مع الفترة التي دخلت فيها البلاد مرحلة جديدة بعد الحركة التي قام بها الجيش في 23 يوليو 52, ومع الانتقال إلى القرية, حيث الطبيعة التي ساهمت في تفجير مواهبه المختلفة, لصنع أسطورته عبر زمن بطيء بطبعه, لا يحتفظ إلا بمتواليات الحزن والمواجع, وهذه هي طبيعة الحياة فيها, وحينما كانت نقلته الثالثة للمدينة, فرضت إيقاعها عليه, فيتحول إلى شخص عضوي, يقترب من صانع القرار, فتأخذه مسارات قاسية إلى أن يصبح شاهدا على ما يدور.
- كيف يمسك الروائي مصطفى البلكي بجمالية الخيط السردي، إذا ما علم أن له مختبره الخاص بلحظته، وأدواته وتقنياته في الكتابة وبوح الشخصيات، وتنفسها عبر الحكايات التي تروى؟.
التأمل والتدريب الطويل على مراقبة الوجوه, أمران خلقا لدي عادة القراءة البطيئة للوجوه , تلك القراءة أحيانا تصل لحد الكسل, لأني أكون قد دخلت في دائرة الاستمتاع بما يدور, وتسليم الأطياف ما لدي من أفكار, لأرى بعينيها هي, لا أمارس القمع مع أي وجه, ومن جانب آخر ألتزم الصمت وأتابع, وهذه المقدرة على التخلى عن السيطرة توجد حياة مختلفة لهم, وأصبح أنا جزء منهم, فيركنون إلىّ, وتولد ثقة غريبة بيننا, تنتهي بهم أن يصبحوا ضمن عائلتي, لدرجة أنني أتخيلهم وهم يلعبون مع أولادي في البيت.
- تصور في روايتك الجديدة “واد جده…سجين قشرة البندق” عودة الشخصية، البطل، إلى مرابعه الأولى، هل يبقى الكاتب مشدودا إلى الماضي، بغاية تمتين نظرته إلى الغد، أم أن الأزمنة تتهاوى في سياق من الحيرة والتناقضات والتحول وفقا لفعل السرد؟.
في الكتابة, لا أفضل الخضوع لقانون الزمن الواحد, وأفضل تلك الحركة التي تأتي بما كان وبما يحدث, وهذا السلوك يجعل الشخصيات تتحدث وتشاركنا الأحاسيس المختلفة, التي تكتسبها من رحلتها , فالعادة والثابت لدى أي إنسان عاش الحياة, يقول الحكمة في الزمن الذي كان, ومع واد جده, التاريخ أصبح بتراكمه كتلة واحدة, الماضي هو الحريق, والحاضر هو الدخان المنفلت منه, والغد ابن شرعي لرحلته التي أراد لها أن تكتمل.
ومع واد جده, لم يحب زمن وجوده, رغم أنه جرب أن يسد النقص داخله من خلال الحب, والنتيجة النهائية التي خرج بها أنه أصبح دون حياة مكتملة, لأن الصعوبات لم تكن في حاضره, بل في الماضي الذي شكله, والذي يأتي إليه في صورة مدمرة من خلال المحافظ التي يريد أن يصنع منه قاتلا.
- في تعبير جميل وكثيف وأقرب إلى اللغة الشعرية يقول بطل الرواية، وهو الشخصية التي تستأثر بقدر أكبر في نطاق سرد الحكاية “كنت مثل غيمة تبحث عن أفق لتُنهى فيه حياتها”، هل يمثل هذا الأفق مصبا لجمالية الأسلوب،والذي تتغياه في الكتابة؟.
الأسلوب مع السنوات أصبح واضحا , وطرق السرد كذلك, وفي كل عمل يبدو لي أنه يتجاوز الراسخ لدي, صحيح يكون الخوف من عدم الوصول إلى ما أريد, يرافقني, وهذا في بعض الأحيان بسبب الأفق الذي يكون جاهلا لكل حركات الشخصيات, و لا يأتي بأي شيء خارق, بل يضع أثره فقط, ويترك ردة الفعل للشخصية, لتخلق الحالة في صورتها, وكل شخصية تأتي بلغتها وبما يبرر نموها, الذي لا يغادر الرغبة في تحريك البساطة لتصنع الجمال.
- يوحي المحمول الرمزي لديك، بشيء من التراكم والارث ومحاورة الأمكنة، إذ لكل كاتب مصادره التي يغترف منها، ابداعاته؟.
لكل مبدع خميرته التي لا يمكن التخلي عنها, لا تأتي مصادفة, لكنها ترافقه منذ الصغر, تأتي تباعا, وأنا تعددت مصادري, فمولدي في إحدى قرى محافظة أسيوط, منحنى فضاء واسعا لتعدد الحكايات الخاصة بالمكان وبالأشخاص, وكوني ربيت في كنف جدة بانتقالي من بيت والدي لبيت جدي لأمي بسبب مرض أمي, منحني فضاء مختلفا, فعشت في كنف جدة عاشت الحياة كمحاربة في جزء منها, حملت أعباء أسرة, وحزن أخ فارقها من جراء عادة الثأر, وكنت أنا أول حفيد لها, نلت ما نلت من محبة وتدليل, وحصلت منها على ما يمكن أن يعد المخزون الأهم في حياتي, فهي بطبعها تجيد الحكي, وكانت حافظ للحكايات والأغاني, ولسير الرجال في القرية, وتلك الفترة التي اعتمدت فيها على التسلية من خلال الحكي الشفاهي, قربت الحكاية لدي, وجعلتني في مرحلة ما من عمري, استقبل الحكاية المكتوبة بصوتي أنا من يسردها بصوت عال أثناء القراءة، وأهم من كل هذا أنني عشت الحياة ورافقت والدي في عمله, وترحله عبر القري , كونه كان يعمل مقاولا, فتعرفت على الحياة الحقيقية في قرى ونجوع محافظتي.
- تفصح مقدرتك في التخييل الروائي عن بعث أمكنة منسوجة بدقة عتال ماهر، كما تحيل إلى حضور آهل بالحركة، ونابض بحيوات عدة كانت هناك؟.
لا يستوعب قصص الدروب إلا من عانق ترابها, ومن عاش الحياة يمكنه أن ينقلها في نص, والأماكن التي تحركت فيها, هي التي نقلتها, نشأت بيني وبين البيوت والطرقات, والحقول, علاقة ود, تلك العلاقة بنيت على الحب, وكما يقال من بني بيتا بالحب يصعب عليه هدمه, كثيرة هى البيوت, دائما هى مقر الراحة, ومستودع الذكريات, وفى لحظة ما تتحول تلك المساحة الصغيرة إلى وطن,فيها نعيش ونكبر, تتنوع , وتحمل الكثير من الأسماء, ابتداء من بيت العيلة, وانتهاء ببيت الزوجية, وبيت وحيد كنا نخاف المرور من أمامه, بيت ربما فقد مهابته, لكنه يعيش فى حكايات كبار السن, يكفى أن يقول عجوز لنا:
ـ انا جاى من عند بيت العدة والكرباج،
نسكت وتسافر عيوننا لبيت مهجور, بابه دائما مغلق, سوره حجرى, شرفاته موصده, مات كل من سكنه, لكن بصماته ما زالت حاضرة فى نفوس اهل بلدتى, لسبب بسيط, وهو أنه صنع وجوده من كلمة واحدة هي الألم.
- لا تكاد جملتك القصيرة والمتوسطة تجنح إلى التصريح والمباشرة، بقدر ما تنبثق الشواهد السردية لديك من لغة الشخصية ذاتها، دون إملاءات؟.
الكتابة لا اجبار فيها, تأتي بتكوينها, وهي من تختار وقتها, وشخوصي لا أتحكم فيهم لدرجة القيد, أو السيطرة التي تلزمهم خط السير المرسوم, هم يتحركون ويصنعون مصائرهم وأنا أراقبهم, وقوة الكتابة تنبع وقبل كل شيء من الكلمات التي تقوم باسترداد العواطف التي لا تستقيم الحياة من دونها, سلاحي لغة تهمس بإحساس وبهدوء لتبحر حيث الوجهة التي تستقر عندها العين بل تتجاوزها إلى تلك الحيوات التي تشبه حياته.
- كيف تتعين علاقتك بالزمن وتقنيات توظيف الحوار، وبالخصوص أن جملتك مشبعة باللهجة المتعانقة والفصيحة التي لاتشوبها عيوب الاقحامات اللفظية، في توظيف الحوار داخل السرد، وبفنيات وازنة، تسوغ، بشغف منطوقها؟.
حياتي التي عشتها, ساهمت في هذا الأمر, ففي صباي كنت أهوى الانصات أكثر, لذلك حينما كنت أهم بالحديث مع أحد كنت أجد صعوبة بالغة في بدء الحوار, وربما تلعثمت, وضاعت مني الكلمات, لذلك كان الجميع يسخر مني, السخرية التي توجب الخجل ومن ثم تدفع إلى العزلة, فوجدت العزاء في الكتب, عالم مختلف أو عالم أثير شدني فوجدت فيه الصديق المخلص, أشخاص يتحدثون إليّ وأتحدث معهم بطلاقة لا وجود لها مع التافهين الذين كانوا يتحدثون عن الفتيات , وممثلات الاغراء, والمطربات , كنت مختلفا, وبدأت أكون روايتي كما أحب.
أبعدتني تلك السعادة عن الحياة, إلا أنها في نفس الوقت شدتني إلى حياة الناس وإلى قصص تشبه تلك القصص التي كنت أقرأها في الكتب, فبدأت أقارن بين الخيال والحقيقة, أدركت أنه لا فرق في الظاهر, إلا أن هناك من عرف كيف يوجد حياة ثالثة بامتزاج الواقع والخيال, فبدأت أخرج, وبدأت حياتي تتكون من جديد, تماما كمن ترك بيته وغاب عنه لشهر مثلا, فأصبح مرتعا للحشرات والغبار, وعندما عاد ظن أنه سيجده على حاله الذي تخيله سيكون, فوجده نظيفا ومستعدا لاستقباله , وحينما ركز قليلا وجد رائحة عطر تنتشر في ارجائه فأدرك أن جارته كانت تعتني به أثناء غيابه, في تلك اللحظة عرف أنها أرملة وتعيش لوحدها, ففكر في وجود الأنيس, كنت مثل هذا الرجل , فكرت في الكتابة, فأمسكت بالقلم ذات ليلة, بدأت التدوين, شدني ما بداخلي فشرعت في نقله, وأدرت حوارا بيني وبينه, وحينما انتهيت وجدته ناطقا, ومنذ ذلك اليوم ارتبط المنطوق باللسان كجزء من ثقافتي ومقياس الحكم على الناس.
- الحدث لديك، متعدد، لكنه لايخرج عن منظار الحكاية، التي تقبل التداول، وشفهية اللغة، بصورة لا تحفل معها الأخيرة بفرط الوصف، كون ذلك يضعف من عنصر السرد؟.
خلقت – كما قال ماركيز- لأحكي.. و الحكاية أول الأِشياء التي تبدأ معنا, ندخلها ونحن في معية الحب, والحب يحمل الجزء الكبير من عبء الاستمرار, والحب من وجهة نظري قيمته في أثره, يكون دائما في مداره يعمل طبقا لقاعدة أننا نعيش به, وقتها يصبح ما يضاف هو زيادة تمدنا بما يجعلنا أكثر قدرة على مواصلة رحلة الحب للحكاية, واليد التي أخذت بلهفتي لتدلني على كنز الحكايات في رف يحمل معظم ما أنتجه محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ, كانت توقن بأنها ستدخلني لمغارة الكنز, وهي تعرف أن الحياة بكل معانيها مستقرة وراسخة هناك, ومن المؤكد أن عيني وقتها حينما عانقت الأغلفة التي أبدعها الفنان جمال قطب في طبعات مكتبة مصر, كانت تفتح لي بوابة لا يمكن تجاوزها بسهولة لصبي قادم من قريته لعالم المدينة في مرحلة التعليم الثانوي, كانت لحظة تسجيل الوجوه التي يشاركها العنوان والاسم لحظة ما زالت تأخذني لما خلف ملامحها التي تطل والمتناثرة بأحجام تتفاوت حسب الحضور داخل النص, ومع كل عمل كنت أعيش معه, كنت أظل لأيام أشيد معها صلة, ووقتها كان يعنيني بدرجة أكبر معالجته للجوانب الإجتماعية وأثرها على الشخصيات, وكأني أقف أمام خبرتي من نوع مختلف, حكايات أخرى, نوع منحاز لكل من نبت من تراب تلك الأرض وعاش في حواريها وأزقتها, وقصورها, وأدرك كيف يكون الوجع, جبرتي غادر فكرة أن المصريين هم أبناء الناس, لفكرة أن المصري هو من رضع الحياة بكل ما فيها من متناقضات عصر خبر هو كل ما فيه, فكان تعبيره أصدق, ومنا ولدت فكرة الكتابة بصدق هي بمثابة فعل حب, وكان من المهم أيضا أن أنصت لغواية الحكاية, والتأمل, ولأن أكون قريبا من الشخصيات ولأن تكون اليوميات العادية مدخلا لبناء العالم المستمد مفرداته من الوجوه التي تعبرنا والتي ندرك ما تحمله من صفات, لتمتزج مع عالم آخر هو عالم الخيال المتسع, ليكون في النهاية منتجنا هو عالم ثالث له ما يخبر بأنه هو جزء من الواقع لكنه ليس هو تماما.
- تنبثق الاستهلالات في روايتك من حميمية تساكنها، في جمل ومضية، تضيء أمكنتها، وسياقاتها، التي غدت واقعا شبه مهجور ومهمل، إلا على سبيل الذكريات التي تحيلها إلى حياة في السرد؟.
في الكتابة, تبدأ الحياة من مشهد, من جملة, وتنمو تلك الحياة التي يتلاشى فيها الحد الفاصل بين المرئي واللامرئي, كما لو أن الامتزاج يعلن عن حياة ثالثة, فيها تنعتق الروح, لذلك تسعى الكتابة إلى إظهارها, بفتح مسارات تختلط فيها الحقيقة مع الخيال ليولد الوقت الخاص الذي يبشر بعالم مختلف, تُنزع فيه كل الحقائق لتكون في يد حقيقة الرحلة, ولتصبح بلا فائدة, وتقلب الولادات الجديدة الحياة رأسا على عقب.
- “أمر على البيوت القديمة وهى تتلاشى, وأذهب الى طرقات كنت أتحرك فيها وأنا أحمل جرابى الذى يصاحبنى منذ أيام البائع الجائل”_ ينزع الوصف في متون أعمالك الروائية إلى التماهي والتجاسد مع المكان، هل تروم من وراء ذلك تحقيق هوية سردية أو بصمة خاصة بتجربتك؟.
الكاتب ابن بيئته, لا يمكنه أن يغرد خارج هذا الوجود الذي يعرف أدق تفاصيله, لأنه سيكون كمن خرج عاريا بلا ملابس تستره, واللحظة الصادقة في حياة المبدع هي تلك التي يصبح متماهيا مع المكان الذي يتحرك فيه, وأنا منذ الصغر وجدت في مكان قامت بيني وبين ما فيه علاقة ود, وبقي علي حينما أمسكت بأسبابي أن أوجدها وأخلدها حتى لا تضيع مع معول الهدم والتجاهل, لذلك جزء مهم من تلك الحوارية هو رغبة ملحة في بث الحياة في أشياء تخشى الموت, وكل هذا يدور بداخلي تحت سمع وبصر حقيقة أحفظها جيدا..من يضيء لا ينسى….
- ما الاثر الذي قد تتركه برأيك لتؤثث به “هوية” متخيلة داخل السرد” من سمات، تحايث واقعها، ولا تفارفه كثيرا؟.
أهم سمة يمكنها أن تقيم الصلة, هي الصدق, والكتابة بصدق متن من متون الحب,كل كائن مؤنث محيط من الأسرار وبعض النساء يجمعن مع المحيط السماء وأسرارها … كلهن ورود يختلفون بمقدار الأشواك التي يحملونها, في جميع الأحوال المرأة الذكية تستطيع أن تجعل من نفسها المرأة التي لا ينساها الرجل، الوطن الذي يجمع ويعيد سرد ما كان بطريقة تشبه جمالها.
- متى تقترب من التجديد، بينما تنهل من لغة سردية لصيقة بإرث الحكاية، تؤبد ذاكرة الاسترجاع لديك؟.
كل عمل حديث يحمل جديده مهما كانت فنياته, والبناء الذي شيد منه, الجديد دائما في الانسان ذاته, حتى لو عدت إلى ما كان, هو نفسه, لا يتغير كابن اليوم, وجديده, يصبح حديثا لدى من يدخل عالمه وهي يريد المعرفة والاكتشاف, ومع تلك الحركة البحثية يتجدد كل شيء.