- كتب: عبدالمجيد التركي
لم أكن أقرأ النصوص التي كان يوصيني بها بعض الأصدقاء الذين يشتهرون بتنظيراتهم في قصيدة النثر. كنت أقرأ صفحات قليلة فأصاب بالملل وأنا أحدِّق في هذه النصوص كأنها كلمات متقاطعة أو لغز إغريقي لا يمت للواقع الذي أنا فيه بصلة.
بعض هذه النصوص النثرية مرصوفة بعناية، وطريقة تشكيلها توحي إليك بأنك تقرأ نصاً مهماً يشبه اتفاقيات ترسيم الحدود، فأتهم نفسي بالغباء وأعيد قراءة هذه النصوص أكثر من مرة، لعلِّي أخرج بنتيجة، لكن تلك السطور المرصوفة تبدو متنافرة ولا يربطها ببعضها أي فكرة، فيخيَّل إليَّ أنني أقرأ فهرساً طويلاً لواحد من الكتب المملة.
أخبرني أحد أصدقائي النثريين أن عليَّ قطع الصلة بالماضي إن أردت أن أكتب قصيدة نثر، لأن الكتابة النثرية تعني القطيعة مع الماضي!
وأنا كنت أفتح ذاكرة الطفولة وأستدعي لحظات ماضوية، وأحياناً أمسك بيد الماضي وأسحبه إلى شرفة عالية لأريه أين وصلنا، ليزهو بنفسه كما تزهو الجذور المدفونة في التراب حين تعلم أن شجرتها أثمرت رغم الجفاف.
سألته: كيف أصنع قطيعة مع الجذور التي أتيت منها؟
أستطيع أن أستدعي الماضي وأصطحبه إلى صالون حلاقة، وحمَّام بخار، ومحل ملابس وأحذية، وسيكون أكثر جمالاً، فنحن في اليمن كل أيامنا الجميلة عشناها في الماضي، ولذلك نحنُّ إلى هذا الماضي لأن القادم قاتم.
كنت أقرأ كل ما يقع في يدي، وأستعير الكتب من مركز الدراسات والبحوث، ومكتبة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، رغم أن لديَّ مكتبة تحوي أكثر من ألف وثلاث مائة عنوان، لكنني كنت متلهفاً لقراءة كل شيء خارج مكتبتي ما دامت يدي تستطيع الوصول إليه، وكنت أقضي من 10 إلى 13 ساعة في القراءة كل يوم، بين النقد والشعر والرواية والمسرح والفنون، وحتى كتب السيرة والتاريخ والحديث وكتب العقائد والمذاهب.
معظم كتب قصيدة النثر التي قرأتها لم أكن أجد فيها كتاباً يدهشني إلا في ما ندر، وكأن كل تلك القراءات الطويلة لم تكن إلا محاولة للعثور على الدهشة، وأستغرب من نفسي لماذا لا أتفاعل مع بعض قصائد الشعراء الكبار!!.
كنت أبحث في هذه الكتب عن دهشة مختلفة تشبع فضولي الذي لم يكن يرضى بالقليل، وأطمح إلى قراءة ما هو أكثر وأبعد من هذا الذي أقرأه.
رواية “الحارس في حقل الشوفان”، للروائي د. ج. سالنجر، كانت حينها الأكثر دهشة بين كل الروايات التي قرأتها. كانت تشبه مخزناً مليئاً ببضاعة الجملة، بينما كان بعض الروايات يشبه حانوتاً صغيراً يبيع بالتجزئة.
قال سالنجر: “الكتاب الذي تتمنى قراءته، أكتبه أنت”.
كانت هذه المقولة هي المفتاح الذي أحتاج إليه، وظللت أبحث عنه بين الكتب المقفلة.
قبل أسابيع سافرت في زيارة إلى شهارة، هذه المدينة التي استنشقت فيها أول أنفاسي. لم أدرِ أن ولدي مصطفى اصطحب نسخة من كتابي الجديد “كبرتُ كثيراً يا أبي”. في اليوم التالي ذهبنا إلى جسر شهارة وأخرج النسخة من حقيبته ليلتقط لي صورة على الجسر وأنا أقرأ كتابي.
أنظر إلى هذه الصورة بغبطة ثريّ ينظر إلى أمواله المرصوفة بعناية في خزانة البنك.
كان بإمكاني أن أكون هذا الثري، لو أنني رضخت لرغبتهم في أكون تاجراً.
التجارة هي مهنة آبائي وأجدادي الذين خرجوا منها بثوب الستر.
لم تكن أسرتي بحاجة إلى تاجر جديد لمواصلة ارتداء ثوب الستر، ولم أكن قادراً على البقاء محبوساً بين أربعة جدران، طوال اليوم، بانتظار زبائن أتهرب من سماع أحاديثهم، ومن معرفة أسمائهم، فقد كنت أحب أن يظلوا مجهولين في نظري. فقد كنت أوقن أنني لن أبقى طويلاً بين جدران الدكان، لشعوري بأجنحة تنمو بين ضلوعي، فالعصافير لا يليق بها البقاء في القفص.
كنت أريد أن أكون أكثر من مجرد تاجر يجمع المال طوال عمره، ويموت مطمئناً لأنه استطاع أن يورث لأطفاله مالاً ومهنة محصورة في دكان يتسابقون على مفاتيحه كل صباح.
لا أريد أن أموت كتاجر، وينساني أولادي بمجرد أن يتقاسموا ثروتي، بقدر ما أريد أن أبقى أمامهم: في المكتبة، في الصحف، في تناولات النقاد، ويجدونني حاضراً في الصحف والصفحات والكتب التي يقرأونها، وأن أظل في قلوبهم وضمائرهم. أريدهم أن يفخروا بي كما أفخر بأبي الذي حرص على تعليمي كل شيء، ومثلما افتخر بي أبي حين قرأ أول قصيدة أنشرها في جريدة الثورة، فقد قال لي يومها: “أحسستُ أن رقبتي طالت ذراع”.
لو أنني فكرت في المال مثل تفكيري في الكتابة لكنت قد جمعت ثروة كافية، لكنني كنت على يقين أنني لم أخلق لهذا، فقد كنت مسكوناً بقلقٍ وجودي، وكنت أرى المال مجرد أوراق ملونة، وأستغرب كيف بإمكان البعض أن يفعل أي شيء من أجل الحصول على هذه الأوراق الملونة!
لم أكن أريد أن أترك ثروة لأولادي بعد رحيلي.. أردت أن أكون أنا الثروة.. أن يكون اسمي هو التركة التي يفاخرون بها، دون أن يكتفوا بذلك، وأوصيهم باستمرار أن يصنعوا أسماءهم، ولا يكتفوا بأن يعيشوا دون أن يشير أحد إليهم بأصابع الفخر والمحبة.
اشتغلت في مهن كثيرة، وحين لا أجد نفسي في أي مهنة أتركها حتى ولو كان عائدها المادي مناسباً. (سأكتب ذات يوم عن المهن التي عملت فيها وتركتها).
ولأن الصحف هي أسرع وسيلة لإيصال صوتي وتحقيق طموحاتي وضعت في رأسي فكرة أن أكون صحفياً، وقررت أن أعمل في صحيفة الثورة الرسمية، رغم استحالة الوظائف في تلك الفترة، وتحققت هذه الفكرة عام 2003م، وما زلت حتى الآن، رغم أن الرواتب مقطوعة لكنني لم أندم على عدم مواصلة التجارة وادخار القرش الأبيض لليوم الأسود.
رغم فرحتي بأنني حققت شيئاً مما كنت أطمح له، لكني لن أكتفي بهذه الأربعة الكتب، لأنني أطمح إلى الكثير، وقد كنت مقصراً لوقت طويل في طباعة كتبي. ولولا الصديق الشاعر علوان الجيلاني، الذي ظل يحثُّني على طباعة كتابي الرابع “كبرتُ كثيراً يا أبي”، والصديقة بدور التركي التي بادرت مؤسستها بطباعته، لكان هذا الديوان نائماً على سطح المكتب حتى اللحظة.
لا أظن أن هذه الثرثرة مهمة إلى هذا الحد، لهذا سأسكت، وسأجمع كل هذه الثرثرة في كتاب قادم، قد يكون جيداً أو غير جيد، لكنني سأشعر أنني صعدت درجة أخرى في السلَّم الذي رسمته لنفسي منذ أن كنت طفلاً يتهجَّى اسمه، ويمشي في أزقة شهارة وهو ينظر إلى الأفق موقناً أن هناك فضاءً ممتداً يتسع لكل طموحاته ويجيب على كل أسئلته.