- رستم عبدالله
في شارع مكتظ بالمارة وفي إحدى الكافيهات المتراصة على إحدى جانبيه، جلس العم سلطان متوترا قلقا يحتسي كوبا من القهوة، وهو يرنو بنظره نحو الزحام، شارد الذهن، أخذ يسترجع ذكريات ذلك القلق المستقر في أعماقه منذ زمن طويل، كان شاب فتياً قوياً نشيطاً في منتصف العقد الثالث من عمره، يعمل في مؤسسه تجارية مرموقة بدخل شهري ثابت يوفر له عيشة مستورة الحال، ويقطن منزلا أنيقاً ومريحاً بالإيجار، يقطنه مع زوجته وأمه، كان يشعر بالسعادة الغامرة مع زوجته الجميلة الصالحة وطفلته الضحوك والجميلة كالبدر، ورضا أمه يمنحه اطمئناناً وبركة لا حدود لهما، وكان محاطاً بجيران ودودين طيبين، جعله يرفل بثوب السعادة، وذات يومٍ وهو عائد من عمله، تفاجأ بشاحنة تنقل أثاثاً منزلياً تهم بمغادرة الحي، عندما أرتفع صوت يناديه، سلطان سلطان ألتفت مغمغماً نحو مصدر الصوت والذي كان ياتي من مقدمة الشاحنة كان جاره الطيب حميد..
– مرحبا سلطان الحمدلله أننا وجدتك لأودعك قبل أن أرحل – إلى أين .. ؟!
– صاحب المنزل أمرنا بإخلاء البيت لأنه يحتاجه ليزوج ولده ..، و قد انتقلت إلى حارة أخرى بعيدة نوعا ما..
– ربنا معكم و إن كنت سأفتقدك كثيراً..
– هذا حال الدنيا ومن المحال دوام الحال ..
تكدر سلطان كثيراً لرحيل جاره وصديقه المقرب حميد وظل رحيله يؤرقه كثيراً وما كاد يسلى بعد بضعة أشهر إلا وحلت عليه مصيبة رحيل جاره الآخر رشيد، والذي صارحه إنه لم يعد يستطع تحمل زيادات الإيجار الباهضة التي يفرضها المؤجر كل عام عليه وإنه قرر العودة للقرية حيث دار أبيه المتهالكة وأرضه التي تركها موات في انتظاره..
مرت سنين وسنين وجيران سلطان الطيبون البسطاء يرحلون ويحل محلهم آخرون لم يكونوا بنفس الود واللطف أو بالأحرى لم يستطع أن يشعر بنفسه وروحه معهم وظل قلقاً مترقباً ينتظر دوره في الرحيل وكان كل ما سمع طرقا للباب من قبل صاحب العين المؤجرة أو تلقى مكالمة منه أرتعب وتوجس خوفاً وقلقاً مع أن صاحب العقار شخص ثري جداً ولديه شركات وعقارات وأموال وينفق الكثير منها في أمور البر والإحسان إلا إنه قد تكونت لديه صورة نمطية عن أصحاب الأملاك مصحوب بقلق وترقب بأمر إخلاء المنزل حتى بعد أن رزق بأبناء آخرون، وتزوج أبنه واستقل بمنزل وصار لديه أحفاد، ظل القلق يعربد بأحشائه وصور رحيل رفاقه لا تفارق خياله مترقباً ومنتظراً مالا سيأتي.