- حاوره: محيي الدين جرمة
غير بعيد عنه، أن قلنا سندباد الرواية يهيم في القارات وأفريقيا بخاصة، منها، سارد لاتعوزه دربة الخبير الذي يمارس حرفته بصبر، مشوب بحذر، لكنه صانع ماهر، ونظرته ولغته في الكتابة غربال يصفي وينقي، دون أن يركن للزوائد والترهلات في جسم العمل، أو للعابر عرضا في صميم لحظة الكتابة لديه، قد يستغرق شهورا، وقد تصل إلى أعوام، لانجاز رواية واحدة، غير أن متعة انجاز العمل السردي له حكاية خاصة كما يراها الروائي المصري علي حسن، صاحب “أنا مي زيادة” ورواية “كاتانجا”، إذ ينفي : “لا أستطيع الانفصال عن ذاتي، ولا أجد ما يدعوني إلى ذلك أبدًا، أو الشعور بالحرج منه. ربما أنعم الله عليَّ أن جعلني طوافًا، سائحًا، أتنقل من بلد إلى آخر، وأضع في جعبتي آلافا من الصور والأمكنة والشخوص”، هنا حصيلة الحوار …
- حينما يدمغ الكاتب الروائي الخبير محمد جبريل تجربتك قائلا “إذا كان على حسن قد تأخر في أولى كتاباته الروائية، فإن روايته “انا مي زيادة” تنسبه – باقتدار – إلى بناة الرواية العربية الحديثة” ماذا يمثل لك قول ورأي كهذا من زوايا مختلفة؟
إن ما تفضل به الروائي الكبير “محمد جبريل” وعبر عنه في مقالته بجريدة “المساء” المصرية، التي تصدر عن مؤسسة الجمهورية، اعتبرها شهادة أكاديمية منحها إياها، وتأشيرة دخول إلى عالم السرد بالغة الأهمية، لأنها صادرة من روائي مخضرم، ومبدع حقيقي، كثيف الإنتاج، متمكن من أدواته، صاحب خبرة جبارة في عالم الرواية تحديدًا والأدب عمومًا، كما أنه صاحب رؤية ثاقبة، كوها بخبرة عميقة وإطلاع له تاريخ طويل سواء على عالم المبدعين أو عوالم إبداعاتهم المتنوعة والمتباينة. ربما هذه الشهادة العظيمة التي شرفني بها أحد آلهة السرد العربي، وأكثرهم تمكنًا من أدواته وأصالة في مادته، أقول ربما هذه الشهادة تضع فوق كاهلي مسئوليات جسام، كنت أخشى وما زلت أن أتحمل تبعاتها، فانا حين أمسك بالقلم، أهابه، وأشعر أن القارئ يتطلع من ورائي على ما أكتبه، وأسمع عبارات التوبيخ قبل الاستحسان، فأنا لا أهاب إلا القلم والقارئ، فإذا بالأستاذ محمد جبريل، وهو القارئ المثقف صاحب الخبرات الطويلة، يطل من بين جميع القراء ليقول لي أنه يتابع كتاباتي ونظر إليها بعين المقدر، ويراها لبنة مهمة في صرح الرواية الحديثة تستحق الإشادة والتوقف أمامها.
الكم لايمثل هاجسًا لدي، وإنما الجودة والإجادة
- ما حجم الأثر الذي تجد انه يحفزك حيال رأي نقدي من هذا النوع، خاصة أنه صادر من صاحب تجربة فارقة ورائدة كتجربة محمد جبريل، ألا تحب مثلا أن “تنطلق بعدها نحو إبداع آخر، أكثر حذرًا، وأبلغ عمقًا، وأشد تريثًا”.. كما قد يحلو لك ذلك؟
هي كذلك بكل تأكيد؛ من طبيعتي التريث كثيرًا في الكتابة. لا أبدأ في عمل إبداعي إلا إذا تملكني، وشغل كل حواسي، كثيرًا ما بدأت في تجسيد فكرة، ثم سرعان ما أتركها لأبدأ في الثانية، ومنها إلى الثالثة الأخرى، حتى أستقر على الفكرة التي استحوذت عليَّ وسيطرت على عقلي ووجداني. فإذا انشغلت بها وقطعت العزم على المواصلة فيها حتى النهاية، لا أنفض عنها إلا بعد شهور طويلة، عامان أو ثلاثة، فالكم لا يمثل هاجسًا عندي، وإنما الجودة والإجادة، ولهذا أعتقد أن العمل الروائي الذي أنا بصدده سوف يستغرق وقتًا طويلًا هذه المرة، ربما أكثر من رواية “أنا مي زيادة” أو “كاتانجا الخمر والبارود” لأن الحذر والتدقيق والإجادة سيشغلان حيزًا كبيرًا من الهواجس التي تعتريني لحظة الكتابة، ولحظة الكتابة هنا هي شهور وأعوام، لأنني لا أنسلخ من شخصياتي الروائية التي أخلقها بسهولة، إذ تسْتَلِبَني وتتلبسني فنصيرا كيانًا واحدًا، الخالق والمخلوق!
القصة القصيرة فن سردي شديد الخصوصية والصعوبة
- تتماس تجربتك الروائية والقصصية، بحال من إندماج أفق السرد في سمات واضحة تحيل الى خبرة ومهارة في الربط عند تأمل بنية الخطاب القصصي والروائي لديك؟ هل مازال “الخريف يلملم أوراقه” أم أن الأخيرة تبرز كخيارات في الرسو بك أكثر عند حقل الرواية؟
لا تختلف التجربة السردية عندي من قصة قصيرة إلى رواية، فآلة السرد واحدة، والغرض الأساسي منهما هو الإمتاع وإثارة العقل والتطلع إلى عالم أفضل. الاختلاف الوحيد، هو التكثيف والايجاز وربما شخصية واحدة في قصة قصيرة، تخلق من تناقضاتها شخوصًا في الخيال، ومكان واحد ووحيد فيها يستشعره القارئ عالمًا فسيحًا، والزمن الذي هو ربما لحظة فريدة ووحيدة، يستقبله المتلقي على أنه دهر، أو حقبة أو عصر كامل بكل ما فيه من تشابكات وأحداث وتغيرات! لهذا فأنا لا أدع القصة القصيرة أبدًا، وأشعر أنها لحظة عصيبة، تفترسني فيها الفكرة بصورة متوحشة، حتى اتخلص منها على الورق.القصة القصيرة فن سردي شديد الخصوصية والصعوبة، ومع هذا أجد راحتي داخل بستانه، حيث التقط خلالها الأنفاس من عبء عمل روائي طويل، استهلك أعصابي وحواسي وجسدي لفترة طويلة.
- تمتاز في القص بوصف وابتكار شخصيات وأمكنة، يخال المرء معها أنك تتكئ على واقع نص مواز، هل ذلك نابع من فكرة التخييل، الذي يدفع بك أحيانا إلى عدم النأي بعيدا عن نسخة لواقعية السرد، لكن باشتراطات فن أن تحكي؟
وضعت يدك على ما أريد أن أبوح به! ربما القص يركن إلى لحظة واقعية، هذا الارتكاز مؤكد وضروري، لأنه يكون بمثابة الانطلاق نحو التخييل، فلا يوجد تخييل صرف، ولا واقع صرف، وإلا شاب السرد خيال جامح يشطح إلى اللامعقول، أو جمود صرف، وواقع مكرر باهت. إنني أجد متعتي في التخييل، وربما أقضي أيامًا طويلة في عزلة، كل ما يدور حولي خيالات، وشخوص خلقتها من العدم، أتحاور معها، وتجادلني، وربما تفرض عليَّ وجهة نظرها، وتحدد لنفسها الماضي والحاضر والمستقبل، وأجد صعوبة في أن أسيطر على هذه الشخوص أحيانًا، وأستسلم بعد طول عناد وصراعات!
اللغة المادة الخام للعمل الأدبي وبدونها يغدو التواصل و الإبداع مستحيلًا
الزوائد الدودية في الأدب تصيب العمل بالإنفجار
- يتحقق فعل الكتابة لديك من قدرة على توظيف اللغة، وانزياح الدلالة، وفي أحايين كأنما يظن المرء فجأة أنك في وارد كتابة نص يشعرن واقعة بعينها؟ كثافة الوصف، في مجموعتك “الخريف يلملم أوراقه” تقترب من الشخصيات بدقة، جعل ملامحها حاضرة بقوة، تتشارك وذهنية التلقي لدى قارئ مفترض؟هل تتعمد قصديات في التلاعب لحظة الكتابة لتكون ذهنية القراءة حاضرة في علاقة الآخر بالمقروء وإلى أي مدى يشكل ذلك اهتماما من وجهة نظرك ومعضلة في آن؟
اللغة هي المادة الخام لأي عمل أدبي؛ دون لغة يصبح التواصل والإبداع مستحيلًا، وجماليات اللغة دون تكلف وإفراط، يمنح السرد جمالًا، نعومة، إبهارًا، خلودًا. ربما أقضي ليلتي في اختيار لفظ أو كلمة تناسب وتتوافق ما أريد التعبير عنه، فإن السرد ليس رصًا لكلماتٍ وإنشاء لعباراتٍ، إنما هو تجسيد باللغة، وتأثير في الوجدان والعقل، لا يتم إلا بمشرط جراح خبير، والكلمة هي المشرط الذي ينفذ إلى العقل والقلب ويحدث فيهما تغييرًا يستهدفه في فكر ووجدان المتلقي. لذلك ربما أقوم بمراجعة النص عشرات المرات. أضيف، أحذف، أغير، أبدل، ثم يأتي الحذف من جديد، للقضاء على أي احتمال للترهلات والزوائد الدودية، التي قد تصيب العمل بالانفجار، لهذا عند الانتهاء من العمل ونشره، في مجلة أو جريدة، أو بين دفتي كتاب، لا أقترب منه أبدًا.
الفكرة في السرد هي الجذوة التي تصنع كل ماتقوله
- تنزع إلى تجريب اللغة من خلال دمج الحكاية في ما يشبه شكل سردي، يتعالق بمضمونه لينفصل تارة كتقنية ربما وتبدو عبره أمكنة وأحيازا خاصة بشخوصك لا تكاد تتكرر في أعمال سابقة لك؟
تلك هي الفكرة التي أعدو خلفها، والتي أنا مهموم بها، الفكرة هي التي تصنع كل ما تقوله، فهي الجذوة التي ينصهر فوقها السارد ولغته وأسلوبه والمتلقي ذاته. ونصوع الفكرة واكتمال تبلورها وعمق تأثيرها يصعب عليَّ أن أتعثر في التكرار، لأن الفكرة الناضجة، تترك في قلبي وعقلي أثرًا ربما لا ينمحي أبدًا، وتظل عالقة في ذاكرتي، كأنها حدث حقيقي، تعرضت له، وعايشته!.
تشابه النجوم مدعاة لاحتراقها وسقوطها في هاوية سحيقة
- معظم تيمات رواياتك، أين تضعها في خضم ما يؤخذ على الرواية العربية اليوم من أحوال التشابه؟
أحمد الله أن ما أكتبه لا يشبه كتابات غيري، والقارئ الذي اعتاد على أسلوبي، يستطيع التعرف عليه حين يلتقي به في كتاب أو مقال. لن أكون مبالغًا أو مغرورًا حين أقول أن كتاباتي مختلفة، سواء في عالم القصة القصيرة، أو عالم الرواية، وهدفي الأول دائمًا حين أكتب أن أصنع التجديد المستساغ وليس المشوه، وأن أحتفظ لنفسي بحيز مختلف ومتميز في هذا الفضاء الإبداعي الشاسع، فإن عالم الإبداع مجرة عظيمة تتسع لملايين من المبدعين، وتباين مهول في الأساليب، وأرى أن تشابه النجوم هو مدعاة لاحتراقها وسقوطها في هاوية الغبار السحيقة.
- مواضيع السرد لديك، حاضرة بقوة، وقريبة من التماس بشخصيات وسياقات من التاريخ، وهي إلى ذلك تملأ أحيازًا لا تعوزك القدرة والذكاء في حياكة بعضها بأسلوب سردي لافت وجميل ومشوق؟
أشكرك على هذا الإطراء الجميل؛ وربما أنت تومئ إلى شخصيتين تاريخيتين تطرقت إلى سرد سيرتيهما في الروايتين الأخيرتين، شخصية الآنسة “مي زيادة” وشخصية المناضل الأفريقي “باتريس لومومبا ورفيقه في النضال ضد الاحتلال البلجيكي في رواية “كاتانجا الخمر والبارود”. هذا هو التاريخ؛ يفرض سطوته على الحاضر والمستقبل، وكذلك تفعل الجغرافيا، ومن دون التاريخ والجغرافيا، لن تجد أمة ولن ترى شعبًا. ربما أنا مهموم بالتاريخ، ومهموم بالماضي، وأنا رجل لا يفلت التاريخ من يدي، ولا أستطيع الهرب من الماضي أبدًا، تعلمت من سنوات عمري الطويلة وخبراتي، وأسفاري أن أتعلم من الأخطاء، وأركن أبدًا إلى نجاحاتي، ولذلك، أريد أن أنقل هذه الخبرات إلى القارئ، فإذا نجحت، صرت متحققًا وصادقًا في أداء رسالتي نحو القارئ المصري والعربي، ونحو طني الذي أحبه.
- علاقة تجربتك بتقنية التخييل. اللغة تبدو كمقاربة حذرة يتمرى أسلوبك خلالها باعتماد واقعية معجونة بشيء من تاريخ الشخصية، وموازياتها في رؤية الكاتب متواريًا؟
لا أستطيع الانفصال عن ذاتي، ولا أجد ما يدعوني إلى ذلك أبدًا، أو الشعور بالحرج منه. ربما أنعم الله عليَّ أن جعلني طوافًا، سائحًا، أتنقل من بلد إلى آخر، وأضع في جعبتي آلاف من الصور والأمكنة والشخوص، لقد زرت عشرات الدول في آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتقابلت مع صنوف من البشر، وعادات وثقافات وأمزجة متنوعة، لا رابط بينهم سوى الدم واللحم، إنسانية آدم وحواء، لهذا يبدو من المستحيل الإفلات من هذا المخزون المعرفي والخبرات الإنسانية، بل إنه من غير المعقول أو المقبول أن أقوم بتنحية كل هذه الطاقات والخبرات التي أراها من النادر أن تتوفر لأحد، دون أن استغلها جيدًا في خدمة الأدب والقارئ.