- عبده تاج
كاتب من المحاربين القدامى، أولئك الذين رافقهم الشّعر حتى آخر لحظاتهم كما لو كان دِين. يمكن له لو اجتهد قليلا أن يخلق شجرة لشدة ما تبدو الكلمات حقيقية في نصوصه. فهو يعيد لها ألَقها كمهندس موهوب يصمّم مدينة ذكية. إنه ساحر أصيل وصائد الكلمات الطائرة التي تحاول المرور في رأسه دونما خلود.
فلا يكفي الصدق في محمود كي تظهر كتابته بذلك التوهج بل يحتاج إلى شيء ما إلهي، شيء ما يشيطن الكلمات ويمنحها مسحات التمرد والذهول. فله سماء خاصة لا يمكن لأي شخص في الدنيا الاقتراب منها أو محاكاتها إنها سماء سرية.
عقله الباطن مساحة للسلام، حيث لا صراع هناك، يمكن لأي شيء يعيش هناك، اللعنات والحزن والمطر.. ربما يحتج ياسين إنه بحاجة إلى لغة أخرى كي يقول الذي يريده. لا أدري هل يمكن أن نقول كان يجب على ياسين التواجد بين شعراء المعلقات يزاحم الشعراء وتؤرقه ليلاً قصيدة أو يكون من ضمن الثلاثة الأوائل الذين اكتشفوا بريق الفن في الظل وأطلقوا على الجنة لقب فردوس. هناك عصور مثيرة يمكن لمحمود أن يعيش فيها.. هناك حيث كانت تخاط الكلمات بالدم وينصّب الشاعر ملكاً ويعدم الكاتب بتهمة الخيانة والتآمر على السماء.
إن محمود مادة خام من الكتابة، جانبه الروحي بإمكانك أن تصنع منه رواية لا تكرّر أو تصنع منه عالم ميتافيرسي لا تقدمه الأرقام بل الحب. فروحه هذه الذي تتمشى في شوراع صنعاء في جسد يمني يرتدي الجنبية والثوب مخزون وافر من الأبدية ويمكن لها لولا حتمية الجسد أن تعيش للأبد. أكتب عن ياسين لأني أحتاج تذكير نفسي بغراميي الكتابة ومهووسيها. فما الكتابة بالنسبة له سوى هواء لا يمكن الاستغناء عنه. الكتابة بالنسبة له الخروج قليلاً عن الضجّر، تجربة لعيش نشوة مجانية. وأعتقد أن لو لم تكن الكتابة موجودة لقالها ياسين بطريقة مختلفة، لربما كان رساماً يرسم صوت كلبا يعوي في إب ويخيط يمناً جغرافيتها مسكونة بالناس الموصوفون بالشهامة والأمل. أحب محمود ياسين كاتباً. إنه يعيد لي تفوق الكتابة، يتركها تقول دون قصد أهميتها كما لو كان هو الراعي الحنون لها. هو كسول جداً يكتفي بنثر الكلمات كما لو كانت عقيقاً فلا يصححها إملائياً ولا يراعي شكلها.. فشكلها موجود في المعنى وزخرفها موجود في الموضوع. لا يكتب ياسين عن موضوع محدد، إن الموضوع بالنسبة له نتيجة، إنه الوجود الذي يأتي بعد الماهية..
فلذا أدخر نصوصه كي أشهرها في وجه الوحشة، أحفظها كأنها تاريخ لإحدى لحظاتي المستقبلية، فيمكن لياسين أن يكون أي شخص. فليس من الغريب أنه قد يكون استعار رقصة نورس أمام سيلان غروب ذهبي، أو أنه ذهب يتمشى بجوار همنغواي أو أنه أسرى مع الملائكة الذين ظهروا في مقدمة مسرحية “فاوست”. تبعث نصوصه التعافي، وتصنع الشفاء من خدوش الزمن والحرب.. وتحرّض على عيش حياة متخيلة، تشيدها الأحرف ولا تهدمها نهاية النص. فالنهاية مبتدأ لخلق حياة مشابهة بنكهة الأحلام وجبروت المقدرة العقلية. ولا أتذكر أي من الفلاسفة قال بأن الشاعر ريلكه قد اختصر الكينونة كلها في قصائده. وعلى هذا ليس على محمود أن يكتب في الفكر أو الثقافة فلغته العميقة تخترق آفاق كثيرة من الحقائق وتهمس للقارئ لأن يكون عاطفياً وشاعراً.