- كتب: جمال حسن
ينطوي الفن على عدد من الأكاذيب، مثلاً تلك الفنون التي تغلف حضورها برسالة او التزام او قضية. ولا يعني انه لا توجد في الفن رسالة او هدف لكنها مخفية وهامشية ازاء القيمة الجمالية لها.
وما جسدته نجومية مارسيل خليفة كانت خليط من الالتزام بقضية وادعاءات النخبة. حاول البعض اقتفاء اثره عبر الصعود على منصات ساحات الثورة خلال الربيع العربي، لكن مارسيل اتى بضربة حظ لن تتكرر، في خليط من نصف فن ونصف نضال.
ولا ننسى كاريزما مارسيل ومظهره الزاهد كثوري، آنذاك ايضا ظهرت حاجة ملحة لنخبة بحثاً عن فن نضالي فكان ابرزها، هل نتذكر ايضا اغاني الشيخ امام التي لم تولد سوى تعاطف مع نضاله فاصبحت اناشيد جميلة. غير ان مارسيل اخذ بعدا نخبوياً وتحديدا مع غناء القصائد وثنائيته مع واحد من ابرز الشعراء العرب، محمود درويش. هل يعني ذلك ان درويش لديه ذائقة يمكننا ان نجعلها مقياساً للموسيقى العربية، او هذا ما تبرزه تلك الثنائية عدا إن كانت بدافع تعاطفاً ايدلوجياً ووطنياً.
(1)
محبي مارسيل يرون نشيده من شعر سميح القاسم “مرفوع القامة امشي امشي” اغنية جماهيرية عادية، لكن بلحنها من مقام الهُزام كانت بطاقته التعريفية، وتتفق مع قدراته الصوتية المتواضعة، وايضاً مع شخصيته اللحنية التي لم تكن لتخرج من روح اغنية “الصنائعية” بلحنها البسيط، مع انعدامها خفة سيد درويش.
وفي احالة مارسيل للموسيقى السيمفونية، أي تجريبه للتلحين السيمفوني وظهوره قائداً للاوركسترا، بدا لي خليطا من الحان رومانتيكية تتخللها الهوائيات كالفلوت مع النحاسيات، والوتريات في نسق تنفلت منه الثيمات. كنت استطيع القول ما المبتكر في ذلك؟ لكنه ايضا كان مغني وملحن القضية، أي فلسطين، وهي القضية التي انفتحت لادعاء سياسي وايدلوجي وحتى فني.
(2)
اخطر انواع الفن رداءة، هو القادم من خداع نخبوي. لا ننكر ان تاريخ الذائقة الفنية قائم على تراكم وصايا نرثها وما يتم خدشه ليصبح شكل وصايا جديدة. واكثر الاشكال زيفا تلك القادمة من حتميات تراهن على الالتزام او فن القضية والموقف.
بل ان نخبة ثقافية واعلامية عربية فوضت لنفسها هذا الاستبداد، وعممت ما هو رديء الى جيد، وربما احالت ما هو جهل الى معرفة.
كانت واحدة من الاحكام الغريبة لقيمة مارسيل خليفة كملحن، انه تجرأ على تلحين قصائد غاية في الصعوبة، دون السؤال عن ماهية الموسيقى المصاحبة لها.
(3)
في واحدة من المهازل، ظهر في التلفاز عمرو مصطفى وهو يستعرض موهبته بأنه قادر على تلحين كتاب الجغرافيا او التاريخ او حتى نشرة الأخبار. في تلميح ذكي اراد استاذ الصحافة اليمنية صالح الدحان التقليل من قيمة الفنان محمد عطروش؛ عندما سأله المقدم في اذاعة عدن عن رأيه بالحان عطروش، قال انه بإمكانه تلحين نشرة اخبار. لكن عطروش ادرك التهكم فارسل سبة على الهواء لم يتوقع حدوثها احد، وتم قطع البث مباشرة. وهذا ما لا يستوعبه ملحن شعبوي وغير مثقف.
ربما هنا مقاربة غير منطقية، لنوع المنصات التي يرتكز عليها فنان شعبوي مثل عمرو مصطفى واخر نخبوي مثل مارسيل خليفة: لكن الاعلام ايضاً ساهم في نقل الغثاثة، وشاركت نخب ثقافية في نسج غثاثتها ومن ابراج عالية.
(4)
ارتبط غناء مارسيل بخاصيتين الزهد السياسي والنضالي فجعلته سياقاً صوفياً، ومواكب الانتصارات فكان ادعاء ملحمياً. الصورة المركبة وربما المختلة. لكن في سياقها اليساري، عاشت على خلط الفني بالنضالي، بتوظيف ما قاله رولان بارت عن الأدبيات الاشتراكية.
ايضا بحث مارسيل عن الأصوات الشعرية المحضورة في التراث، وبرمزيتها التراجيدية والثورية مثل الحلاج، باعتباره حالة تحتاجها الثورة. يرتبط حضور مارسيل بهذا الماضي المصنوع من التعاطف.
بالنسبة لي لم ار في قصائد الحلاج ما يبهر، سوى تعاطفنا مع تاريخه الشخصي، و نهايته المأساوية مصلوباً. اما شعرياً، فلم اجد ما يمنحه امتيازاً بجانب الصف الاول وربما الثاني من الشعراء العرب. ربما الأمر ينطبق على التراث الشعري الصوفي في العالم العربي بما فيه شعر ابن عربي، فهو ليس بثراء الشعر الصوفي الفارسي على سبيل المثل، اين هو من شعر ابو تمام العظيم. ذلك ليس تقليلاً او سخرية، لكن الموضوع الصوفي في الثقافة العربية ارتبط بتصورات فكرية او روحانية.
(5)
وفي لحنه لقصيدة الحلاج سنرى التعلق المبالغ بزخرفة اللحن، هي سمته في العزف على العود. كانت حداثته ايضاً تعميماً للأساليب التقليدية وحشوها في غلاف الموسيقى او الثورة. فإما كانت احالة رومانتيكية غربية، او زخرفة شرقية. وهو امر تساهلت معه الايدلوجية عبر ادعاءها للتعبير الملتزم، ففي الواقعية الاشتراكية تم اقتفاء الاثر الرومانتيكي وابتذاله تحت مسميات التعبير عن القضية والثورة. فتبنت بعض الاعمال مواضيع للعمال، وكانت الحان شعبية بتضمين سيمفوني.
في حالة مارسيل، هناك تاريخ حافل من التلفيق في الثقافة العربية، فمثلاً اصبحت اغاني سيد درويش شديدة البساطة عن الصنايعية والعمال والحمالين نماذج للفن الملتزم. وكان هناك ذكرى من بقايا نضال، او انتساب له، مازال حاضراً اسمه مارسيل، وقليلاً جداً من الفن.