- كتب: شوقي شاهر
ما أصبح متعارفُ عليه اليوم هو أن وسائل الإعلام قد أصبحت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالفرد والمجتمع وباتت تتدخل في كافة شئونه وعلى مستوى تفاصيل حياته اليومية حد التطفل على خياراته وقناعاته في أحايين كثيرة..
غير أن الجديد في الأمر هو أن العملية الإتصالية لم تعد مقتصرةً على طرف واحد كما كان معتاداً عليها في السابق ، بل ان المتلقي قد أصبح أكثر وعياً من ذي قبل، وبات يمثل عنصراً هاماً وفاعلاً في العملية الإتصالية برمتها، وهذا بالطبع جاء نتاجاً للتطور المذهل الذي تشهده وسائل الإعلام، ومكنت الجميع من أن يمارس دوره من موقع القائم بعملية الإتصال وليس كمتلقي فقط، بل وكمرسل وصانع لها ايضاً وذلك من خلال معايشته للأحداث وتوفر الوسائط الملائمة له ليقوم بهذا الدور، وساعده في ذلك التدفق الهائل للمعلومات وسهولة الحصول عليها من مصادر عدة، إلى جانب تلك التي يتعرض لها من هنا أو هناك ثم يقوم بإعادة نشرها وفقاً لقناعاته وميوله، وتبعاً لمستوى إدراكه للتفاعلات التي تتم من حوله..
ومن هنا فقد أصبح الجميع أكثر عرضةً للتعرض لكم أكبر من تدفق و تبادل المعلومات والأخبار والتحليلات، ومع ذلك فلا يمكن تجاوز خطورة مثل هكذا علاقة غير متكافئة كماً وكيفاً بين أطراف العملية الإتصالية، فهي ومن خلال النظر إلى ما تملكه وسائل الاعلام من إمكانات مادية وتخطيطية وكوادر بشرية وفنية فإن ذلك يمكِّنها من لعب أدواراً أشد تأثيراً تجاه الجمهور المستهدف من حيث محاولات فرض وجهات النظر وإعادة صياغة الواقع وتغيير المفاهيم – سلباً أو إيجاباً- إضافةً إلى قدرتها على تغيير السلوكيات والإتجاهات نحو أنماط تفكير مغايرة، بل وتسعى إلى دفع المتلقين – الذين لا يملكون غير كم محدود من المعرفة – إلى تبني مواقف ربما تكون عكس قناعاتهم وطرق تفكيرهم..
إن التخطيط المستمر والكم الهائل من الرسائل والمعلومات التي تبثها وتنشرها مختلف الوسائل الاعلامية – بما فيها وسائل التواصل الإجتماعي – بشكل متواصل ومستمر وبإمكاناتها الضخمة والمتعددة لكفيلة مع مرور الزمن إحداث التغيير المطلوب الحصول عليه من قبل القائمين على رأس تلك الوسائل، فإما أن يكون المحتوى جيداً ويسهم على المدى المتوسط والبعيد في تعزيز القيم الايجابية مثل وحدة المجتمع والتكافل وقيم التعاون والأبداع وتفجير الطاقات البناءة لدى الافراد، أو على العكس من ذلك فيكون تشتيت المجتمع ومحاولات تمزيقه والتحريض بين مكوناته وإثارة الفتن بين أوساطه هو أبرز ما تهدف الى تحقيقه تلك الوسائل الإعلامية، مستغلة بذلك زيادة اعتماد المتلقين عليها للحصول على المعلومات والأخبار التي لايمكن التحكم بها كماً ونوعاً فيجره ذلك الى اتباع مواقف واتجاهات قد لا تصب في غير صالحه، بل وقد تهدد سلامة ووحدة المجتمع برمته..
وفي بلادنا فإننا نشاهد أن عديد الوسائل الإعلامية ما تزال تعبث بالنسيج الإعلامي ليس على مستوى العلاقات بين ابناء المجتمع عموماً، ولكن حتى على مستوى العلاقات بين اعضاء الوسط الإعلامي انفسهم، وهذا يتم في الوقت الذي يجب عليهم فيه أن يمثلوا القدوة والنموذج الذي يجب أن يجسدوا من خلاله قيم الترابط والتلاحم التي يقتدي بها سائر افراد المجتمع..
ومن الملاحظ في هذا الإطار أن من أهم العوامل التي حجّمت من دور الإعلام في تعزيز الترابط الاجتماعي، وتسعى لإحداث حالات من التمزق بداخل النسيج الاجتماعي هو خضوع القائمين على هذه الوسائل في أحايين كثيرة لرغبات السياسي ، والتي غالباً ما تكون حاملةً في طياتها لعوامل الشقاق والتصدع والدفع نحو مزيد من الفرقة وذلك تبعاً للأهواء أو لحسابات خاصة ناتجة عن الصراع السياسي أو غيره، ومن ثم فإنها ترمي بدائها ووبائها على مضامين الرسالة التي يتم تسويقها بوعي أو بغير وعي وذلك في ظل وجود مبررات يمكن أن تمثل أم الدوافع للأنقياد وراء مثل هكذا رغبات لن تجر إلا إلى المزيد من ويلات التمزق والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد..
وبماأنه لاتوجد في السياسة عداوات دائمة،ولاصداقات دائمة،وإنما مصالح دائمة ، فأنه قد حان الوقت للسعي نحو وجود مناخ إعلامي أكثر اتزاناً يحمل خطاب إعلامي يعزز من قيم السلام والتسامح، ويسهم في خلق واقع جديد يردم الفجوة بين الاطراف السياسية ويقدم رسالة مهنية تتجاوز الخلافات التي تعمقت في اوساط المجتمع بفعل العقليات السياسية الجامدة والتي ظلت لفترة طويلة تفرض قناعاتها على مضامين الرسائل الإعلامية والتي كانت تُنقل وتبث غالباً بدون أدنى تدخل من قبل المرسل والذي تمت قولبة دوره في السابق وفي أحايين كثيرة ليصبح مجرد وسيط وناقل دون إتاحة الفرصة أمامه لإحداث أي نوع من أنواع التغيير أو التطوير في مضامين الرسالة الإعلامية والإكتفاء بهذا الدور الذي جعله غالباً في مواجهة مستمرة مع جمهوره ويتحمل أمامهم المسؤولية وبالتالي يصبح في قفص الإتهام..
لقد بتنا أمام مهمة جادة يجب أن يتخلق من خلالها دور جديد للإعلام وحتى يكون هو المبادر في صناعة الحدث وتطوير الواقع وتحديد الأولويات المستقبلية أمام الأجندة السياسية، وإعادة صياغة العلاقة بين الإعلام والمشتغلين بالسياسة وتبني اجندة إعلامية خاصة تنطلق من الثوابت الوطنية التي لايجب التفريط بها، وبما يسهم في الحد من الخصومات التي تسببت في إنهاك البلد بكل ما فيه، والعمل على إستيعاب ونقل وجهة نظر الطرف الآخر، والسماح بتلاقي الأفكار وفرض خيارات يسودها الوفاق والوئام، عوضاً عن حالة التخندق المنهك خلف الاجندات والرغبات الذاتية التي قد تصل حد الافلاس الوطني وهو الأمر الذي يعني مزيداً من التشرذم والفرقة والتمزق وجر البلد نحو مستقبل تسيطر عليه الأزمات، وتقوده الانفعالات، وتتحكم به الخصومات بما فيها الخصومات الشخصية وذلك على حساب المصلحة الوطنية.