- كتب: أحمد الأغبري
لم تُكرّس الحرب في اليمن حقيقة كما كرست نزعة الاستحواذ السياسي والعسكري على الجغرافيا؛ فضعف الدولة وتراجع قوة قرارها المركزي يعزز – من الطبيعي – من نزعات الانفصال، وخاصة عندما تجد هذه النزعة حاضناً إقليمياً يمولها؛ فتكون الفرصة سانحة لتتحول النزعة من الرغبة السياسية إلى التسلط الجغرافي. وبتعدد الحواضن تعددت المكونات اليمنية التي تتصدرها نزعات الاستحواذ، ولأن الاستحواذ يحتاج إلى مال وقوة مسلحة، فقد توفر عدد من المكونات المسلحة خارج عباءة الدولة وجيشها، وبلغ الحد أن صارت هذه المكونات التي تتقاسم الجغرافيا جزءاً من هرم السلطة، وتتموضع كجزء من مركز صنع القرار؛ كالمجلس الانتقالي الذي يرأسه عيدروس الزُبيدي عضو مجلس القيادة الرئاسي (الوحدوي) رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي (الانفصالي).
وعلى الرغم من أن مجلس القيادة الرئاسي يمثل في معظمه قادة معظم المليشيات في البلد؛ فمن الطبيعي عجزه عن اتخاذ قرار لردع أي مليشيا تتجاوز قرار ما تبقى من الدولة؛ وبالتالي يمضي المجلس الانتقالي الجنوبي باتجاه الانفصال، ولا يجد أي رد فعل من قبل الحكومة، التي هو جزء منها.
لم يكن اللقاء التشاوري للمكونات السياسية الجنوبية في اليمن، الذي سعى له ورعاه المجلس الانتقالي الجنوبي (الانفصالي)، سوى تحصيل حاصل؛ فمخرجاته كانت جاهزة، بل لقد أعلنها رئيس المجلس عيدروس الزُبيدي في كلمته الافتتاحية للمؤتمر، عندما تحدث معتبراً المجلس ممثلاً للقضية الجنوبية كاختيار شعبي يذهب صوب الانفصال عن الشمال، هكذا تحدث معتبراً تأسيس المجلس استجابة لمطالب شعبية بتشكيل كيان يحمل القضية الجنوبية، ويكون ممثلاً لها، بل لقد أكد أن مطالبه هي الانفصال واستعادة دولة الجنوب وفق ما كانت قبل عام 1990(…) هنا نتوقف لنسأل: ماذا ترك الزبيدي للقاء التشاوري ليناقشه ويقرره ما دام المجلس الانتقالي هو ممثل القضية الجنوبية وطرفها في مفاوضات الحل النهائي؟
تشكيلات مسلحة
لا يتجاوز رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي كونه أداة من أدوات النفوذ الإماراتي في الداخل اليمني، ولو عدنا قليلاً إلى ما قبل 2017 فلم يكن الزُبيدي سوى مسؤول حكومي لم يتقبل عزله من موقعه محافظاً لعدن ليرفض القرار، ويدخل فيما بعد ضمن مشروع جديد ظهر من خلالها على الساحة على رأس ما سُمي المجلس الانتقالي الجنوبي، متصدراً الحديث عن القضية الجنوبية انطلاقاً من إمكانات مالية ظهرت فجأة بموازاة تشكيلات مسلحة خارج نطاق الدولة ممثلة في الأحزمة الأمنية في عدن وأبين وغيرهما، حتى بات لحضور المال قوة مسلحة؛ وهي ثنائية من الطبيعي أنها ستعزز من هيمنة الانتقالي، الذي أصبح في وقت قصير تهديداً لقوة الحكومة اليمنية؛ كما استخدم لإضعافها، بل لدرجة أنه انقلب عليها فيما شهدته عدن عام 2018 فيما عُرف بانقلاب عدن، والذي قامت به مليشيات المجلس الانتقالي، ومن خلالها هيمنت على عدن وبعض المحافظات الجنوبية، حتى أصبح دخول وخروج أي قيادات حكومية يتم من خلال هذه التشكيلات.
الإصرار على تنظيم اللقاء التشاوري للمكونات الجنوبية على الرغم من اعتذار عدد من أبرز هذه المكونات، يؤكد أن الممول يريد المضي في طريق التقسيم، ولا يمثل تنظيم اللقاء سوى مسرحية لاكتساب غطاء سياسي في ظل وجود أكثر من مشروع انفصال ليس على مستوى الجنوب فقط، ليبقى السؤال: ماذا تبقى من الوحدة اليمنية في ظل تعدد مشاريع الانفصال؟ يقول نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق الكاتب والمفكر عبد الباري طاهر: “الوحدة اليمنية قامت على أساس الطوعية والخيار السلمي، وقبلها قامت الثورتان اليمنيتان سبتمبر وأكتوبر على الأساس السلمي، وقامت الدولة اليمنية على هذا الأساس، لكن حرب صيف 1994 دمرت الخيار السلمي، ورفعت شعار الوحدة أو الموت؛ فانتصر الموت الذي بقي بالفعل حاضراً ومؤثراً، والذي نعيشه منذ عام 1994 حتى اليوم؛ فالموت هو الحاضر والمؤثر، وهو الشعار الذي رفعه المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح من خلال الحرب على الانفصال، وكانت الكارثة، وما نعيشه اليوم هي حرب 1994، والتي دمرت الوحدة شمالاً وجنوباً وخلقت واقعاً جديداً”.
وأضاف لـ”القدس العربي”: “عندما نسأل اليوم عن الحرب لا بد أن نرجع للمصدر الأساس، وهي حرب 1994، التي كانت حرباً بين الشمال والجنوب، بينما خلقت في الواقع حرباً في اليمن شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً؛ وبالتالي هي المسؤولة عن هذه الكوارث، وعن ضياع الوحدة”.
وتابع: “ما يحصل اليوم هو أن الواقع اختلف عما كان عليه قبل 1994؛ فالجنوب أصبح كيانات متعددة، والشمال كيانات؛ فصنعاء كيان، وتعز كيان، ومأرب كيان، وحضرموت كيان، وتهامة كيان، وعدن كيان وشبوة كيان، الخ. دُمر الكيان اليمني، دُمرت الوحدة اليمنية، ومُزق النسيج الاجتماعي؛ فما نعيشه اليوم هو ثمرة لحرب 1994 وهي ما تبقى من وحدة الحرب”.
تعويم الحرب
وأردف: “الزجاج عندما ينكسر لا ينكسر إلى قسمين، بل إلى أجزاء؛ وما يحصل الآن لن يعود باليمن إلى ما قبل 1994؛ فالجنوب لم يتوحد، والشمال لم يتوحد، والحوارات التي تتم في عُمان أو الرياض أو في أي مكان تدور حول اقتسام الغنائم بدءاً من تعويم الحرب، والأخطر ما يتهدد اليمن هو حالة اللاحرب واللاسلم، تبقى حالتنا كحالة الصومال أو ليبيا، بلداً مفككاً وخاضعاً للنفوذ الأجنبي والاقتسام”.
ويرى طاهر في اللقاء التشاوري الذي عقده المجلس الانتقالي الجنوبي ليس سوى مسرحية لإنتاج طرف ثان للتفاوض. وقال: “الانتقالي يعد طرفاً ثانياً، نحن في صنعاء أمام طرف ممثل في “أنصار الله” (الحوثيين)، ولا بد من طرف من الجنوب، غير الحكومة الشرعية التي طلعت أكذوبة ووهم، الذي يحصل في الجنوب هو تشكل كيان يمثل الجنوب ليتم التفاوض من خلاله، لكنه تفاوض بعيد عن أعين الشعب والتمثيل الحقيقي والشفافية. فاللقاء التشاوري ليس سوى محاولة لمنح الانتقالي تفويضاً كمكون قابل للتفاوض باسم الجنوب”.
وأضاف: “البلد مهدد ببقاء الحالة القائمة التي تسودها اليوم، وتعبّر عنها حالة اللاحرب واللاسلم في سياق إعادة تدوير المنطقة العربية، بمعنى تعويم الحالة اليمنية لا حرب ولا سلم ولا وحدة ولا انفصال، والمستفيد هي القوى التي تريد تدمير الأمة العربية وسيادة إسرائيل”.
وخلص إلى أن “حالة اليمن الآن يستحيل فيها حل مشكلة الجنوب بمعزل عن الشمال أو حل مشكلة الشمال بمعزل عن الجنوب”.
- عن “القدس العربي”