- قادري أحمد حيدر
السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة أعظم، والبعض يتحدث ويكتب عن ذلك، وهو يفكر في عنف وخطورة الاستبداد، وهو خارج السلطة، ولكن ما أن يصل البعض إلى رأس السلطة، أو يقترب من نعيمها حتى يبدأ السير الحثيث، والعنيف باتجاه محو تلك الذاكرة من الكتابة، والانقلاب على تلك الأفكار الثورية الرومانسية التي دونها عن مفسدة السلطة .
فالملك كما يقولون عقيم، خاصة حين يتماهي مع الاستبداد وغياب العدل، فإنه لا ينجب ولا يورث – في الغالب – سوى الخراب العظيم.
إن مشكلتنا مع الاستمرار في بناء الدولة، – الذي بدأ في التاريخ اليمني القديم- بدأت في اليمن الاسلامي”الإمامي” , مع آواخر الربع الرابع من القرن الثالث الهجري(٢٨٤), كما كان لتلك الأزمة/المشكلة في بناء الدولة بعد له صلة وصل عميقة بالإستبداد السياسي والديني التاريخي، والاخيرة ظاهرة عربية، وتكاد تكون عالمية، بدأت بالتراجع مع نشاة وظهور الدولة القومية”البرجوازية/الراسمالية”, في أوروبا .
بعد وصول الحمدي إلى رئاسة الدولة كنت أتوقع أن يستمر الرئيس الحمدي عقوداً طويلة في الحكم، ليس بسبب ديمقراطيته الإجتماعية،ووطنيته اليمنية، بل شريطة ان يستمر على ذات الخطاب، والنهج السياسي، والسلوك العملي الذي بدأ به حكمه. ولكن حسابات الحقل في الغالب غير حسابات البيدر، فقد كانت القوى المعادية والمناقضة للمشروع السياسي للرئيس الحمدي أكثر إدراكا منه، ومنا لمصالحها، ولما يجب عمله تجاه ذلك المشروع السياسي والوطني الكبير، فكان اغتيال الرئيس مقدمة لاغتيال المشروع – وحتى اليوم – لأن الرئيس الشهيد/ إبراهيم الحمدي لم يحسب حساب خطورة مشروعه السياسي التاريخي على مصالح قوى الدولة العميقة، وكان متساهلاً بلا حدود مع قضية أمنه الشخصي، والأمن الوطني، لأنه لم يستوعب بعمق تاريخي خطورة وحساسية وأهمية ما يقدم عليه، من توجه جدي لبناء الدولة المركزية الحديثة،”الوطنية”, فضلا عن حواراته الوحدوية مع قيادة دولة الجنوب، توجه تجاوز فيه الرئيس الشهيد/ الحمدي كل الخطوط الحمراء مع الداخل والخارج.
مشروع سياسي تاريخي كبير تقف دونه حوائل وموانع عديدة داخلية (الدولة العميقة)، وخارجية (السعودية تحديداً)، فكان الاغتيال الفاجع لرئيس الدولة، وللمشروع السياسي معا.
ومع وصول علي عبدالله صالح إلى السلطة لم أك شخصياً أتوقع استمراره تلك السنوات الطويلة (34) سنة، وتوقعت رحيله المبكر والسريع، لأننا لم ندرك، ولم نقدر بشكل صحيح ودقيق، أن مشاريع بناء الدولة في اليمن بقدر مالها من بعد تاريخي، فإن لها بعدا سياسيا معاصرا، وتحديداً من بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، وثورة 14 أكتوبر 1963م، قوى معادية تقف دون تلك الرغبة ، وذلك الحلم ببناء الدولة، قوى ممانعة داخلية، متجذرة الحضور في البناء الفوقي، ” السياسي”, وفي البناء الاجتماعي، وخاصة في مناطق شمال الشمال، وعوامل خارجية (السعودية)، وهي تحديداً من تناصب مشروع قيام وبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة العداء .
وقد تجلى ذلك العداء لبناء الدولة مع أول أسبوع لقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، في صورة الحرب على الدولة الجمهورية، ومحاولتهم -بعد ذلك- فرض صيغة”الدولة الاسلامية”, كما في مؤتمر”الطائف”٫أغسطس،١٩٦٥م٫ وجميعهم : قوى الداخل “الدولة العميقة”, والخارج اصطفوا موحدين بعد ثورة فبراير،٢٠١١م في مؤازرة، ودعم حكم ونظام علي عبدالله صالح، ومن هنا استمراره تلك السنوات الطوال.
وحين ذهب في العقد الأخير من حكمه نحو توريث الحكم في الأبناء، أيقنت عميقا أنه بدأ بدق أول مسمار في نعش زوال حكمه/ ملكه، وجاءت التطورات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية الخاطئة ، والكارثية، لتسرع في دوران عجلة ذلك الزوال، الذي جاء من خارج منظومة الحكم المباشر، ومن خارج أي دور سياسي فعلي ومباشر للأحزاب السياسية التقليدية التاريخية، لأن قسما منها كان مشتبكا مع نظام علي عبدالله صالح، بمصالح مادية، وسياسية عميقة وكبيرة، “تاريخية”, وخاصة الجزء السياسي المتأسلم، والقسم المشيخي القبلي .
ومن هنا لم تك الأحزاب السياسية التاريخية في مستوى ذلك التحدي لإسقاط نظام حكم علي عبدالله صالح، دون إنكار أو تجاهل دور الاحزاب السياسية (اللقاء المشترك)، في المساهمة، والمساعدة بصورة أو بأخرى في التعجيل بنهايته، مع عوامل ذاتية، وبنبوية آتية من داخل قلب نظام الحكم ذاته (مجاميع سنحانية وقبلية، ومشائخية، وعسكرية وتجارية مختلفة)، أدركت جميعها أن ذهاب علي عبدالله صالح نحو استبدال الجمهورية، بــ”الجملكية”، أمر طيب، ولكن غير الطيب هو ذهابه إلى ذلك دون مشاركتهم، وهم من عظام الرقبة، وهي البداية لإعلان أفول نظامه السياسي الخاص، وبداية زواله.
إن الخطوة نحو توريث الحكم، قطعا، شجع فئات وجماعات مختلفة على القول بأحقيتها بالملك، وبالعودة بالوطن إلى ما قبل الثورة/ الإمامة،”الملكية”, وهي التي لم تنس طيلة (1400سنة)، ثأرها للحسين في “كربلاء”، فكيف بها تنسى ثأرها مع ثورة 26 سبتمبر 1962م، وثورة 14 أكتوبر 1963م، والأهم كيف ينسون ثأرهم القريب ممن قتل مؤسس الجماعة الحوثية، حسين بدر الدين الحوثي!! وهو ما لم يستوعبه علي عبدالله صالح، لأنه بدون ذاكرة وطنية، وبدون رؤية تاريخية لمعنى الثورة، ولمعنى الدولة، ولمعنى اليمن (عقل ذبابة) فقادته عقليته الثأرية والانتقامية من انتفاضة الشباب، والشعب في فبراير 2011م، إلى التحالف مع بقايا الإمامة، “الهاشمية السياسية”، ضداً على الجمهورية، وعلى مشروع بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديث، فكان المسمار الأخير في نعشه المجهول المكان، (القبر), وهو مكر التاريخ، لمن يعبث به، و يستخف بتاريخيته، وهو الذي كان يتبجح بأنه يلعب بالآخرين ككروت.
وكان التاريخ لا ينسى ولا يسامح الجهلة من الحكام .