- كتب: ضياف البراق
بالنسبة للرماديين، لا شيء في الحياة أقسى من الانتظار. فليس من شيء أشد سوءًا من الانتظار، وهذه حقيقة مُجرَّبة لا ينكرها حتى الحَجَر الظمآن المُعلَّق على هامش النهر. أن تنتظر أي شيء، أو أي أحد، يعني أن تجلس عاريًا على صفيحٍ ساخن. يعني أن تمزِّقَ قلبك عبثًا، تُمزِّقه لأجل لا شيء. عندما تَنتظِر، فهذا يعني أنك لستَ موجودًا إلّا في اللاوجود فقط. فالانتظار احتضار قاسٍ قبل أوان الموت. في العادة، كل الانتظارات نتيجتها واحدة مع فارق طفيف في الشكل أو اللون أو الدرجة. الانتظار سجن بلا هواء، قَبْرٌ عميق في الخَبْت تقذفنا فيه الحياةُ وتتركنا نقاسي التبعات وحدنا. ما علينا. أمّا أنا فسأنتظر الآن اثنين فقط: هنري ميلر، وهنري ميشو. من الأول سأتعلّم شيئًا من ذاك الجنونِ المصقول الذي تولد من ضلعه الرواية، وتزدهي بألوانه الساحرة المتنوعة. ومن الثاني سوف أتعلم وجهًا جديدًا لكتابة القصيدة الأكثر حداثةً، وقليلًا عن فن الرسم. بالتأكيد أنا لا أعرف شيئًا عن هذا المدعو هنري المَلّاح، لا أدري مَن يكون، ولا ما صفته، ولا كيف قفز اسمه إلى ذهني وهبطَ على هنا دون استئذان. هذا ليس مطرحك أيها الملّاح القديم، لقد عرفتك في الماضي البعيد، في دروس مادة التاريخ حين كنتُ طالبًا متفوقًا في الصف التاسع الأساسي في تلك المدرسة الريفية البسيطة، فأرجوك أن تدعني الآن أُكمِل غنائي ورقصي على مسرح هذه اللحظة الصافية، كيلا أجدني بعدها مرميًا خارج التاريخ، أو عاريًا من سعادتي المستعارَة من العَرَق المصنوع على عجل وبعشوائية كارثيّة. إنني رماديٌّ، وفي وقتي الحالي أعيش مكانَ شجرةٍ صغيرة اعتراها عذابُ الحرب، فذبلت وصارت هشيمًا في الريح، أو رمادًا في أي موقد غيبي، لا أدري. لكن، لا تخافوا على وجهي الرمادي، من الظلام والوحشة والأخطاء الأخرى؛ فهو يجد دائمًا طريقةً ما للخروج، للإفلات، للانتصار، أو يجد لغةً ملائمة يعبّر بها عن اختلاجاته الداخلية الغريبة تعبيرًا وافيًا بصورة كاملة الدقة.
رماديّون لأنهم ضد كل الإفراطات. الإفراط في التفاؤل خصوصًا. أنا واحد منهم تقريبًا. ويومَ صرتُ واحدًا منهم، أظنّهم احتفلوا بي وصبّوا كمية كبيرة من النبيذ على جراحي المتعطِّشة للضوء والمرَح. نبيذهم خاص جدًّا، مستخلَصٌ من أعشاب المحبة الكونيّة. المعنى الجميل موجود في المحبة، لا وراء هذه الأشياء الفارغة، المبتذَلة. كل شيء له حدود، إلّا المحبة لها أجنحة. المحبة أنوثة رقيقة رقراقة، كريمة ومترفِّعة دومًا. الرماديون، ليسوا من الرماد، ولا ينفخُون في الرماد، الحمقى وحدهم يفعلون ذلك. رماديّون لأنهم مزيج فريد من اليأس والأمل، نسيج خاصّ من خيوط الشمس والغيمِ والحزن وملامح الهاوية. الرماديون ليسوا أشباحًا كخيالاتِ أولئك المرضى نفسيًا من فرط خوفهم من الحرية، بل إنهم أناس مختلفِون حقًّا، فكرًا ونبضًا، أنقياء وخفيفون، أطفال وأنبياء في آن. الرماد ليس منهم، لكن لديهم مهارة عجيبة على ابتكار أغنية من الرماد، مُنعشِة للعواطف والحواس والحروف الزائدة عن حاجتهم. لكن إذا احترقوا يومًا ما، وصاروا رمادًا، فإنما ذلك من أجل اكتشاف الحياة بعمق أبعد، أو لكي يصيروا خفيفين عليها، وقادرين على التواصُل بصورة مباشرة قريبة وسهلة، مع حقائقها الغائبة والمغيَّبة، واللقاء بها وجهًا لوجه، وبدون رتوش.
لديهم أسئلة كثيرة لكن ليس حول كل شيء، يعرفون أعماق الهاوية، ويهبطون فيها، نفَسهُم طويلٌ مثل حبل الموت. كل سؤال هو نافذة أمل، قنديل ضوء، كل علامة استفهام تعني أن الموتَ صديقٌ حميم للحياة، وكل إجابة تعني عندنا أن نتقدم للأمام أو ننزع لغًما من الطريق. هكذا ينظرون إلى المسألة. كل إنسان حقيقي هو نظْرٌ عميق وبحثٌ جماليّ دقيق، هو صوتٌ صافٍ ينبع من الأعماق يغنّي الحريةَ، ويتغنّى بها، الحرية الناضجة الهادئة. مثلهم أنا، وهم يتكلمون مع المطر، ويرقصون مع الشجر، ويواجهون الرياح التي تهبُّ عليهم من كل اتجاه، مثلهم أعيش مع الأشياء، بفلسفةِ صوفية بعيدة العمق، وأحفرُ قَبرًا للكراهية دون أن ألطّخ أصابعي بالدم.
حين يهطل مطرٌ غزير أو خفيف، عليهم أو حولهم، يفرحون به، يتطهّرون به من رجس الواقع، ويكتبون أشعارهم للحياة. هم من كل مكان، العالم كله وطنهم، والحياة كلها تُدهِشهم، وتطربهم، وقد تمنحهم ما يريدون إذا شاؤوا.
من البحر يتعلمون العطاء، من الكلب الوفاءَ، من المرأة حُبَّ الحياةِ ودرْسَ الكفاحِ، ويأخذون من الفضاءِ اتّساعَهم المفتوح. أنا كلمة، وهم كلمات. كل هؤلاء الرماديين يُقدِّرون أهميةَ الكلمة، يقدّسون تَعدُّدَ المعاني واختلافها، يعتقدون أن الحياة هي الكلمة، إنها اللغة مصدرُ حياتنا وإلهامنا، وقبل اختراع الأبجدية لم تكن على هذه الأرض حياة لها معنى. ولكنْ عندما تختل كلمة من الكلمات، يختل جزء من حياتنا، أو تنطفئ شمعة هناك، في القلب أو الذاكرة أو الخيال. فمن الكلمة كان وجودٌ، وأشرقَ ضوءٌ، وانفجرت ينابيعُ، وأمطرت غيومٌ، وأزهرت أرواحٌ، واتّسعت الإنسانية، ثم كثرت الوجوه، وانتشرت أفراح وأتراح، أضواء وألوان، إلى أن رأينا كلَّ هذا العالَمِ قائمًا أمامنا، منتشرًا من حولنا كأنه نحن جميعًا وكأننا هو بكل تفاصيله.
للرماديين شوارع غير هذه الشوارع الكذّابة المريضة، وأحلامٌ غير أحلام الزائفِيْن والخائفين، وأفكار نزيهةٌ نزاهةَ المعلِّم العظيم سقراط. نعم، إنهم يسهرون مع أبيهم الروحي العزيز، سقراط، يسيرون على خطى أسئلته الضوئية الكثيفة، ويحلّقون عاليًا، مثله. وسقراط هو أنبغ رجل أنجبه الغرب، حسب تعبير الفيلسوف الشهير هايدجر. وأصدقائي وأنا نؤمن جميعنا بتلك الحقيقة، ونعانق هايدجر أيضًا. الرماديون هادئون، قليلو المبالَغة، خفيضو الصوت، كثيرو الصدق. ولكنهم يتناقضون أحيانًا، ليسوا معصومين من الخطأ، وربما يتصرّفون مثل اللاشيء لكن من دون أن يثيروا ضجيجًا أو غبارًا حولهم. الحرية في دمائهم، تجري وتنمو في تناسُقٍ مُذهِل، والحكمة الهادفة تقترب منهم شيئًا فشيئًا كلما ساروا نحوها بشغف وإخلاص. يختلِجون، يتعذّبون، لكنهم لا يتهافتون على العفونة المنتشِرة، لا يتساقطون أبدًا خارج سياق العِطْر الصوفي. رماديون نَعم، ليس لأنهم عديمو القيمة، ولا لأنهم خائفون من تقلُّبات الحياة، وإنما لأنهم يتفهمون الواقع، ولا يقفزون على شروطه الموضوعية كيلا يدفعوا الثمن مضاعفًا؛ فالهزيمة في وقتها خير من النصر بعد فوات الأوان. وعدم استيعاب هذه الحقيقة، سيقودنا بشكل آو بآخر إلى خارج المعترَك الأساسي الوجودي، حيث المعنى مجرد صحراء.
حائرون بين التفاؤل والتشاؤم، متردِّدون بعض الشيء، غارقون في الظمأ مع أن نفوسهم يفيض منها الماء. ذاك حالهم الآن. يرتمون في خِضَمِّ الأشياء، يرسمون أفراحًا على حيطان قريبة من الناس، يطولهم قُبْحُ القبيحين، لكنْ لا يردّون الصاع صاعين، لا يكيلون بمكيالين، لا يلعبون على الحبلين، لا تخطر على بالهم أفكار الانتقام.. ليسوا محايدين، ولا ضد الجميع، وإنما يكرّسون حياتهم لأجل مزيد من النور، يجعلون قلوبهم متراسًا للدفاع عن الجَمال، يناضلون ضدًّا على التفاهة الممنهجة، والكراسي المتصلة المتوحشة، والخطابات التي تفسد العقل العام، وتعتقل التاريخ، ونتائجها التي تأتي حتى على الوردة الصغيرة، والحكمة المنفردة، بل تأتي على كل الأخضر واليابس فينا.
الرماديون لاعبون ماهرون خارج الأضواء والضوضاء والنوايا البائسة والأزمنة الزائفة. لا تستهويهم اللذائذية، فهم بعيدون عن الرغبات الخادغة بُعدَهم عن الهُراء والتكبُّر. لاعبون لا يلعبون من أجل أهداف صغيرة وأغراض منحطة. الأدوار القزمية والارتزاقية لا تليق بمبدئيتهم الشريفة، وضميرهم النضالي النقي. فشموخهم الذاتي لا يهبط في الوحل، لا يتناقص، ولا يميل مع ريح الانحطاط إذا مالت. فنّانون حالمون كالعصافير، حاضرون وغائبون كالأطفال، فاعلون وفعّالون كالرُّسُل المجهوليين. رماديّون يعملون في الصمت، يبتكرون ألوانًا من الهدوء جديدةً، الدهشة تتبعهم أينما ساروا، أو تُوْلَدُ من إيقاع خطاهم الواثقة المتناغمة، تتفتّح لهم الزهرة في الطريق، فتفوح منهم المعاني الزكية، تُظلِّلهُم الفراشات إذا اشتدَّتْ بهم ضرواةُ الشمس، تحنو عليهم المسافات إذ تتقاصر لتُخفِّفَ عنهم، والجهات ترقص معهم، تذوب أو تنحني أو تصافحهم ثم تعود أدراجها.
الرماديون قليلون عددًا، كثيرون عشقًا للتأمُّل والقراءة والاستنارة والاتصال بجراح الفقراء، وهم لا ينثرون الرماد على عيونكم، بل يفتحونها على مزيدٍ من الحياة، ولا يتصرفون مثل الرماد حين لا بُدَّ عليهم أن يتصرفوا بوصفهم مصابيحَ هداية، وأناشيدَ أمل، معاولَ بناء، ومنافذَ إنقاذ، وجسورَ نجاة. تقريبا أنا واحد منهم، وفلسفتي هي فلسفتهم. الحياة مغامرة، ويجب أن نغامر في كل شيء، ودومًا. أجل، هم من المغامرة، وغيرهم من الرماد.
نحن الرماديين نستطيع العيش بسلام أو بأقل خسارة، حتى بدون الضوء والأمل، وحتى في أماكن غير آمنة، أو في حقول ملغومة. نحن لا نعرف كل شيء، ولسنا ندّعي أيّ نوعٍ من المعرفة، ولا نحاول امتلاك الحقيقة المُطْلَقة، ولا نقحم أنوفنا في كل شيء، وبالكاد نعرف أنفسنا كي نفهمَ القليلَ عن الحياة. هذه ميزتنا الأولى. أما الميزة الثانية والأخيرة، فهي أن مدار حياتنا، أو محور ثورتنا الوحيد هو الحب، الحب وحده، فقط هو وليس غير. ذاك هو محورنا الأوحد، ومنه ننطلق إلى غايتنا، ونتحرّك، وسوف نشعل شُعلتنا الكبرى في نهاية المطاف. وحين يكون النصر، سنبتسم فحسب، ولن نفرحَ فرحَ الغرور.