- كتب: ضياف البراق
أنتم اكتبوا عن الحرب وأنا سأكتب عن الحب، اكتبوا عن البلاد، وأنا سأكتب عن المرأة، اكتبوا عن السياسة وأنا سأكتب عن الأنوثة، سأكتب شعرًا أو أكتب أغنية، وأنتم اكتبوا عن الموت والدمار.. فأنا ولغتي ونبضي نرتعب من مظاهر وصور البشاعة والخراب، ولا نحتمل الوقوف على الأطلال.. كذلك لا نحب انتظار ما ليس بآتٍ أو مفيد، أو ما ليس ببسيط وهادئ وخفيف.. لكم شأنكم، ولي شأني هذا، وهو يعنيني أنا وحدي، فقط.
الحب هو التطور في الفهم والتفاهم، هو التعايش مع الاختلاف، مع الأضداد، وارتقاء الذوق، وصدق الكلمة، ونقاء المعاني، ورقة المشاعر، وعمق النظر.. فمنذُ اللمحة الأولى كان الحب، بدأ مع بزوغ الفجر الأول، من هناك عرفته، أو هنالك شعرتُ به، فخلبَني بسحره المجنون.. رعشتي الأولى من الحب هي التي أضاءت أمامي الطريقَ.. وقادتني إلى اكتشاف بعض ينابيع الحرية والجَمال والقوة بداخلي.. أنا مدين لهذه الصدمات التي أتلقاها بين وقت وآخر، من الحب، من هذه المرأة الصعبة، أو من تلك الأنثى المدلّلة.. فعبر تلك الصدمات يأتينا الإلهام المتدفق، ونستطيع عندئذٍ أن نبدع الفنون، ونشعل الأضواء، ونفتتح نوافذَ جديدةً لرؤية ما حولنا بشكل أوضح.. الحب حفْرٌ في الأعماق بحثًا عن المعنى الأسمى.. والشخص العنصري أو الاستغلالي لا يصبح إنسانًا حُرًّا وكريمًا إلّا بعد أن تصيبه صدمة الحب، تلك الصدمة الساحرة العذبة، تلك الهزة الاستثنائية المفاجئة التي تجعل الجبال ترقص أمام عينيه أو في داخله..
أحيانا أشعر أن الحب يطعن قلبي بغابة من الذئاب المفترسة، ويحبس أنفاسي بقهقهاته الساخرة وأنا بريء من أي ذنب.. وأنه يُسقيني كل أشكال العطش، ويُنسيني الماء، حتى الماء الذي في عيوني، وكأنه يسحب البحر من تحت روحي، أو يجفِّفه، أو ينزع قوتي من بين أصابعي، ويهوي بي من رأس أعلى شاهق إلى هاوية أبدية.. أجل، يجعلني الحب بعض الأحيان أشبهَ بسفينةٍ لم تعد قادرة حتى على الغرق.. يضعف قوتي ويقوِّيني في آن.. إنه امرأة ساحرة وعنيدة تهبط على قلبي، تصدمه ثم تختفي، الحب الذي يبدو وكأنه العاصفة الهوجاء، إنه تيار إلهيّ خارِق يندفع مُباغِتًا من كل حَدَبٍ وصَوْب جارِفًا إياي إلى عوالمَ شتّى.. والحب هو المغامرة الأخطر والأجمل، مغامرة مستمرة ولا تنتهي، ولهذا هو أكثر من شيء..
ولا يمكننا إدراك روعة الجمال، والتمازج معه، أو الامتزاج به، حين نكون فارغِيْن من عاطفة الحب المتوقِّدة الحُرّة.. فالسير خارج التاريخ هو العيش من دون حب، أي بغير شغف إنسانيّ كبير.. بدون انغماس كامل في الأنوثة.. وعند الكتابة عن الحب، يجب أن يتدفق الماء من قلبي العاطِش، أن يصير عطشي مطرًا غزيرًا يروي جميعَ الجهات الظامئة، وعلى روحي أن تتغلغل عميقًا في كل الأشياء، كما تفعل نار الأساطير، لكي تتحول كلماتي إلى قناديل صافية تضخ النور حولي، إلى شموس تنسج خيوطها حولكم بشكل مذهل..
إن الحب هو كلب من الجحيم، هكذا قالها تشارلز بوكوفسكي، الشاعر والكاتب الشهير، وهو مُحِق ربما، والحب عندي هو جحيم من الجنة، أو جنة في الجحيم، نهر يقطع الصحراء، نور يأتي من ظلمات العدم، الحب حضور كثيف في قاع الغياب، وطن حميميّ داخل وحشة الروح، مطر ينبعث من الداخل الإنساني العميق، عِطْرٌ سيّال يتسّرب من باطن الصخر الأصمٌ.. الحب هو الندى في الليل اليابس، وهو شعاع الضوء على طول النفق من الداخل، ومفتاح الطريق المسدود.. الحب عطاء متواصِل غير محدود، شجاعةٌ بيضاء متقدِّمة تثور في وجه الرعب الضخم الأسْوَد.. جَمالٌ كريم يحتضن القُبح البخيل ليصبح جميلًا كريمًا، وأثناء مشاهدتي لفيلم مصري هزّتني هذه العبارة الصادقة البليغة رغم فرط بساطتها “الحب مش امتلاك.. الحب من غير تسامح وتضحية ما يبقَش حب”.. وهكذا يجب أن نرى ونتحرك ونعطي عندما نحب، بل ويجب أن نستمر في الحب حتى حين لا يكون بوسعنا أن نسامح أو نضحّي أو نبني أي شيء، والحقيقة أن يد الحب ليست قصيرةً بل نظيفة وطويلة، إنها قادرة على بناء جسور متينة أو فتح قنوات جديدة للاتصال والتواصل، والانفتاح والتفتُّح.. ويد الحب النابعة من القلب هي كذلك قادرة على جعل المألوف مُدهِشًا، والقديم جديدًا، وتحويل اليابس إلى أخضرَ.. وكل حبي يتجه نحو المرأة، فهي التي تعكس كل هذا الحب على كل شيء.. وإنها عندما نمنحها الحب الصادق تجعل كل شيء أليفًا وصافيًا، خصبًا ومضيئًا.. كما تجعلني أحب الجميع.. وآه من المرأة الغالية التي تصنع بي كل هذا العذاب الطيّب، وآه من قلبي المهووس بها.. ولكَمْ صدقَ الشاعر الجميل أنسي الحاج عندما قال إن العالَم تنقصه أنوثة، نعم، يا أُنسي، هذا العالم تنقصه الدهشة والبهجة والحقيقة الجميلة..
لم أعرف نفسي إلا عندما عرفتُ الحب، لم أحس بالحياة قبل وقوعي في الحب، يوم احترقت روحي بشعلة الحب، يوم انزلقتْ نفسي إلى هاوية الحب.. استنارت حياتي واتّسعتْ وصارت أكبر من قلبي وربما أطول من عمري.. يوم غرق قلبي في الحب، في الغرام، في العشق الذي لا نهاية له، عرفتُ أن الحياة غير ممكنة بدون هذا الجنون.. عندما نحب نكون إنسانيين حقًّا، نصير أطفالًا وعصافيرَ، وردًا ومطرًا وشمسًا ساطعة.. بالحب نتحوّل، نتطوّر، نتغيّر، نخلع عن وجوهنا الأقنعة الكاذبة، ننسف سجوننا الداخلية، نخرج من الكهوف إلى الحدائق، نحب حتى رمال الخَبْت، وملوحة البحر، وقمم الجبال، نعم كل هذا لا يحدث بغير الحب الجارف، الحب الذي ينسينا خطورة الوقت، ويجعلنا نذوب مثل الثلج على النار.. من الحب نستخلص أروع المعاني، فبالعشق نبدِعُ، نتنوَّر، نتحرر.. نذهب إلى أعماق الأعماق، إلى النور والينابيع، إلى كل شيء إذا شئنا.. لكن بغير المرأة لا يكون للحب أي طعم، لأنها هي ملحه ونوره ونبضه وجنونه وطوله وعرضه وجميع أبعاده.. الحب هو المرأة، الأنوثة، والحب والمرأة هما كل شيء.. هما الحياة، والكتابة، والحضارة..
الحب يختارنا ولا نختاره، نقع فيه من حيث لا نشعر أو لا نعرف، إنه يهبط علينا من فضاءات لا نعرفها، الحب أن نخسر أنانيتنا ولا ننسحب من المعركة، أن لا نكسب شيئًا سوى الدهشة والمعرفة والذكريات الرائعة، الحب مخ الوجود، وبوابة الأمل.. وعندما نيأس منه لا نستطيع الانقطاع عنه، إنه أصفى نهر، الحب يكتبنا قبل أن نكتبه.. في أغرب وأحلك اللحظات يحدث الحب، في المنعطفات الخطيرة نلاقي حُبَّنا، إنني مأخوذ به، مشدود إليه، إنه يتفاعل في أعماقي على قدم وساق، إنه الحب، ذاك البركان الذي يثور في كلماتي، في كتاباتي.. الحب حقيقة غير معقَّده، لغز نلمسه ولا نفهمه، نحتاجه ونخافه، نتركه ولا يتركنا.. الحب صوت الكون الأعمق في هذا الإنسان..
المرأة لغة واسعة، بل عالَم من اللغات المختلفة، فالخبير في اللغة المحب لها وحده يفهم عالم المرأة.. الغباء والحب لا يجتمعان.. الحب والجهل بالكلمة، الحب والجهل باللغة، لا يجتمعان.. لا يشكلان علاقة حميمية.. لا يتعانقان عناقًا حقيقيًا وناضجًا.. الكلمة مفتاح كل شيء.. أسرار المرأة هي كأسرار اللغة.. ومن عرف الكلمة وأدرك ما وراءها، وفهم أبعادها، فهذا مُرشَّح لأن يكون عاشقًا كبيرًا، مجنونًا بالمرأة، مغامرًا في الحياة دون انقطاع.. الجاهل لا يعرف الحب، لا يمسّه سِحرُ الحب الحقيقي، العشق ينبع من قلب رحب وعقل كبير، من لغة فكرية سليمة ومشاعر روحية مستنيرة.. والمرأة هي لغتي وأفكاري وكل خسائري وأسفاري القلبية..
من الحب أجيء إلى هذا العالَم، من العشق تطلع شمسي عليكم، من خلال نبض المرأة أستطيع الوصول إليكم، أنا مغامرة متجددة باستمرار، أنا سيل عاطفي لا ينقطع عن الجريان والهذيان، إنني روح مجنونة لا تشبع من العذاب الجميل، وجع الحب، أنا كفاح مدفوع بالحب في كل جبهات الحياة، أنا الجنون من كل شيء.. أنا الضحية في كل علاقات الحب، وأنا الحب الذي يعيش ويموت ويتجدّد لحظة بلحظة.. فهكذا حبي يسير بي، وهكذا أنا مُصِرٌّ على حصد المزيد من الخسارات العاطفية..
على الدوام أقاسي من احتياجي الشديد للمرأة، من تعطُّشي لدفء الأنوثة، لمائها الخمري، وانفجاراتها الجمالية الأخّاذة، إني بحاجة دائمة لحنان وهمس ونبيذ وصخَب النساء.. المرأة هي نقطة ضعفي الأكبر.. ولا شيء يوازي أو يفوق جنوني بالحب، بالمرأة خصوصا.. فالمرأة هي كل المعاني بالنسبة لي، نعم إنها أطيب الثمرات، وأغلى الجواهر، وأخطر القصائد، المرأة تهزمني حتى حين أكون بعيدًا عنها، غيرَ مشغولٍ بعالمها.. كل إلهامي الأدبي ينبع من جنوني وعشقي للمرأة، من انجرافي وهوسي بجمالها وعطرها.. بشهوتها الخلّاقة التي هي محور الحياة وقوامها، ومصدر كل هذا الجمال الذي نشاهده من حولنا وفي الأشياء..
عرفت الهاوية صغيرًا، أحسست بها ثم وقعت فيها وأنا في عمر صغير، كنت طالبًا في الصف الرابع الأساسي عندما اعترتني تلك الحُرقة الشديدة، الحرقة التي لا تُفَسَّر، التي لا تضاهي لذتها أي لذة أخرى، حرقة في القلب، وتحت الجفون، في الدم والوقت والروح والخيال، تلك الحرقة أصابتني وأنا في الصف الدراسي الرابع.. إذن لقد وقعت في الحب قبل أواني، أصابني الحب في زمن كنتُ فيه غيرَ قادرٍ على شيء، ولا بوسعي احتمال عذاب وتبعات هذا الحب.. فمن هنا بدأ التداعي الغرامي داخل كياني، وبدأت روحي تتوهج، وتتطاول، تتمرد، وتدفعني لخوض مغامرات متصاعدة أكبر من سني وطاقتي.. أحببت زميلتي في الفصل، جننت بها، غرقت في ملامحها وتفاصليها وأنفاسها، وصوتها النقي عندما تقرأ درس القراءة في الفصل.. رحت أركض وراءها طوال الوقت، في المكان وخارجه، في الخيال وما وراءه، في الليل قبل النهار، وفي النهار وكل شيء.. كنت أتقرب منها بأي شكل، بأية صورة، أتذرّع بكلمة أو كذبة أو هدية صغيرة لأجعلها تلتفت إلى عينيَّ المغرمتين بها، أردتها أن تحس بما يحمله قلبي لها من عشق مُقدَّس، أن تنظر إلى ما يدور منها في بالي وداخلي.. حاولت بكل الطرق كي أصيب قلبها، حاولت أن أخترق عالمها، أو أسرق جزءًا صغيرا منه، وأمتلكه وحدي ويبقى بحوزتي إلى ما بعد فنائي.. والحب لا يفنى.
وكما أعتقد دومًا، يولد الأذكياء والعباقرة والشعراء، بل يولد الثائرون من الحب المبكِّر، أي من ذلك الشعور الاستثنائي الحارِق الذي يباغت قلوبهم، ويُفجِّرها قبل سنوات المراهقة، وقبل نمو أظافرهم.. الحب المبكر يصنع المعجزات ويكشف لنا الكثيرَ مما لا تراه العين.. يدفع بنا إلى معترك الحياة.. يقودنا إلى رحلة الكشف والإبداع والمغامرات والتضحيات الكبيرة.. فالحب للشجعان الأنقياء، للذين يعرفون قيمته، ويعرفون كيف يحبون حياتهم وما حولهم، الحب فن أعظم وكل هذه الفنون تصدر عنه أو بدوافع منه.. فقبل الحب لم يكن للحياة أي معنى، لا ضوء أو بريق أو صوت.. كانت منطفئة، تائهة، باهتة، باردة مثل جثة في ثلاجة الزمن الرخو.. الحب يخلق فينا حيواتٍ متعددة ومتنوعة، ويمنحنا مهارة عجيبة للاستمرار في العيش والنمو والارتقاء، الحب تفانٍ وفناء وخلود، انفجار ونماء.. جنون من أجل الحياة، وحياة من أجل الجنون..
أحببت مراهقات وناضجات، صغيرات وكبيرات، عانسات ومتزوجات، أحببت امرأة خمسينية وأنا دون العشرين، ثم أربعينية وأنا في تمام العشرين، أحببت جميلات كثيرات في كل يوم من عمري وكل مكان كنتُ فيه.. وأحببت ماكرات قاتلات.. ولم أستسلم.. وسأظل على هذا الدرب إلى الأبد.. درب البحث عن المرأة… درب الركض للحصول على الأنثى اللائقة التي تحتضن كل جنوني هذا دون فراق أو انفصام.. وفي كل تجاربي كان قلبي يشتعل.. يحترق.. كنت بكاملي أتعذب، وأضحّي، وأخسر، كنت أحب بصفاء وصدق وعبثية أحيانا.. لكنني، كما أظن، ولا مرّةً كنتُ مزيَّفًا أو ماكرًا أو ضيّقَ الأفُق.. أو قدّمتُ حاجة غريزتي على حاجة نبضي.. لم أقدِّم شهوتي على روحانيّتي.. لقد كنت أبحث عن نجمة واحدة، كنت بحاجة لشريكة واحدة للعمر كله، لواحدة ليس أكثر، واليوم ها أنا بحاجة لجيش من النساء لكي أتوقّفَ ولو قليلًا وأستريحَ وأبدع وأشعر بالأمان وأحس بالوجود.. بل لكي أموت وأنا قد عشت الحياة بعمق وحرية وعطاء.. دعوني أحب نفسي أيضًا، لكي أستطيع أن أحبكم بوضوح وصدق وفوضى!
ومن الحب، طبعًا، أن أكتفي بهذا الكلام الساخن، المتضارب مع بعضه أو نفسه ومعانيه، وأن أتوقف هنا، على شفير جحيم آخر.