- ضياف البراق
حزين جدا في رحيل هذا الشاعر العظيم: مظفر النواب..
وأخيرًا، وبعد معركة طويلة، ذهبَ العزيز إلى استراحة مفتوحة، ربما لا تنتهي، غادرَ بتواضع فريد، أي بدون ضجة وأضواء، بعد أن أشعل ثوراتٍ كثيرة على الظلم والاستبداد والسياسات القمعية القذرة التي تحتقر كرامة شعوبنا، وتخنق وجودنا من كافة النواحي.
كان حقيقيًّا وحَقّانيًا وعلى أشرف المبادئ وبأجمل الرؤى والأحلام عاش. نعم، إني حزين جدًّا عليه، ولكن دمعي كله ليس كافيًا لتتويج وتكريم هذا المستنير الطهور.
كل الأشياء الجميلة حزينة على مظفر، على الشعر المتمرد، على النوافذ التي فتحها لنا هذا الفارس البارع، هذا النهر المتدفق من الضوء الجميل.
من الشموخ أيضًا أن نبكي في رحيل الكبار، أن ننحني لهم ونبجِّل مكانتهم فينا، بأرق دموعنا وأندى صلواتنا.
مشكلته أنه إنسان بسيط ذهب إلى الأشياء دون قناع، بحسب تعبيره الصادق عنه نفسه. إن ورطته الكبيرة هي في أنه لم يكن نصف مثقف، أو نصف موقف، أو نصف إنسان، “أنا يقتلني نصفُ الدفءِ، ونصفُ الموقفِ أكثر”. لا أيها الأدعياء. لا أيها الأنصاف. لا نريدكم. خطيئة كبرى أن تكون شريفًا في مجتمع يحكمه ويمسك بزمامه الأدعياء، عديمو الشرف، ولذلك “جميع الشرفاء في هذي الأُمّة أغرابُ” كما يقول مظفر.
انحن. لا تقُل كلمةَ الحق. لا ترفض المرفوض. خن نفسك ومجتمعك في آن. ابقَ منزويًا في الظلام. لا تهتف لأجل ازدهار الحياة. لا ترقُصْ ولا تغنِّ. ابتلع غضبك واسكُتّ عن الصلف والظلم. واسجد عند أقدام جلاديك كي نحترمك. ولكن مظفر النواب تمرد على كل شيء، وأشعلَ النارَ الحمراء من الجميع الجهات. ولهذا، اتّهموه بالبذاءة وعدم اللياقة وقلة الذوق. أفحمهم بشجاعة خُلُقه العظيم. عرّاهم ولكنهم لا يخجلون. وسيظل يرعبهم دومًا وأبدًا. لا يموت ثائر بهذا الحجم الشاهق. لا ينطفئ صوت له هذه الفرادة الممتازة.
أخيرًا رحل شاعرنا العروبي الكفاحي الحر، لكن الجبناء والأنذال وأشباه الرجال لم يرحلوا، إنهم أقبح لعنة أصابتنا من المحيط إلى الخليج. “في كل عواصم هذا الوطن العربي قتلتم فرحي”.
لا ريب أنه قد رحل وهو ممتلئ بالحزن والصمت النازِف دمًا ودمعًا. إنه رحيل شاعر لا يتكرر أبدًا، ومن هنا ينبع شعورنا الجارف بالخسارة. لكن لن نيأس، ولا يجب أن نيأس، فهو القائل “احذر وإنْ عُرِّيتَ أمامَ العالَمِ أن تيأسَ”. تلك صرخة مظفرية عميقة ضد اليأس الخطير، اليأس الثوري على التحديد.
إني لا أجد الآن كلمات رثائية أو تمجيدية تليق بشموخ هذا الرجل الذي جعل حياته النضالية تجري على نحو بطولي مذهل، مدفوعةً بشجاعة أسطورية منقطعة النظير.
ناضل بالكلمة الطليقة أكثر مما ينبغي، انحاز منذُ البداية للفقراء، وسار على هذا الدرب النظيف والصعب معاً، دون أن يساوم أو يجبن أو يستسلم، رغم كل المرارات والمخاطر التي راحت تطارده في كل مكان، وتتربّص به بعد كل قصيدة كان يُطلِقها في وجه الانحطاط العربي الكارثي.
هو الذي فجّر ينابيع الحرية في أعماقنا، بقصائده السياسية العالية، وأسقانا من ضوئه وشغفه وحماسه وجماله، حدَّ الارتواء. أعطى العروبةَ دمه ولحمه وصوته وأحلامه وعمره كله، ولم يأخذ منها شيئًا، غير هذه الخيبات والمتاعب الثقيلة. ربما كان عطاؤه علينا أكثرَ مما نستحق. ثم إنه فتّحَ عقولنا المغلَقة، وكبَّر قلوبنا الصغيرة، وهدانا إلى فلسفة الثورة، وألقى بنا إلى الضوء، بعد أن كنا غارقين في الظلام الحالك.
كان أشجع وأشرف من خصومه الحاقدين، أقوى من قمعهم وجلّاديهم، وبصق دائمًا على صورهم القبيحة. كان عراقيًا وفلسطينيًا حتى النخاع.. ففلسطين لا تزال حاضرةً إلى الأبد في جراحه وأنفاسه وخطواته ودموعه وصرخاته الحرة وعيونه الحزينة.. إنه أصدق شاعر عربي حمل على كتفه، وفي صميم قلبه، الوجعَ الفلسطينيَّ الكبيرَ، بكل وضوح ودون أي زيف. قصيدته “محمد الدرة” لا أروعَ منها، ولا يمكن لأي شيء أن يمحوها من ذاكرة الجمال الحيّ وصفحات الحرية الصادقة. أما تلك القصيدة التي كتبها في رثاء الشهيد الفلسطيني المناضل ناجي العلي، فلا يمكنني إلّا أن أنحني لها مرّةً، ومرّات. النّفَس الثوري الصريح، والتكثيف الجمالي الخاطف، حاضران بشدة في جميع أشعاره. في صوته، عندما يقرأ الشعر، حزن كثيف لا ينطفئ، أو لا ينخفض، وفي أعماق ضميره شفافيةُ وعذوبةُ النبعِ الصافي. مناضل اجتماعي متصوِّف، ونور ساطع لا يختلط بالأضواء الزائفة، ولا ينطفئ عندما يقفز في العاصفة أو حين هي تباغته في طريقه.
مات الذي نسف كل وجوه البشاعة، واخترق التخوم والخطوط الحُمْر، كي يكشفَ لنا ما يُحاك ضدنا وراء الكواليس. كتبَ الشعرَ كي يُرينا أعداءنا الحقيقيين، وينصرنا عليهم. بصوته الإبداعي، وفكره المتيقِّظ، كان كونيًّا حُرًّا إلى أبعد مدى، ومثقفا يساريًا من الطراز الأول، ولكَمْ ناضلَ من أجل بناء وطن عربي متماسك كريم بحيث لا تنسحق فيه كرامة أحد، أو يهان إنسان ظُلمًا، أو يُحارَب فيه المختلف، أو يُمنَع الرأي الآخر..
لكن هذا كله لم يتحقق، لم يتحقق شيء منه، إذ لا نزال في الحضيض نفسه!
هذا ثائرٌ حقيقي يغادرنا هذا اليومَ منتصرًا على خِسّة هذا الزمن العربي المزيَّف الفاضح. هذا الرجل الأيقونة لن تنطفئ شعلته على الإطلاق. سيبقى صامدًا ضد الزمن والغياب والمؤامرات. وداعًا في رحيلك الأخير إلينا. على الدوام أنت ترحل إلينا.
لترقد روحك بسلام، وفي أحضان البهجة المُطْلَقة.
وبعد اليوم سنقرؤك بشغف أكبر، وبكل جوارحنا، وعلى نحو أعمق.
سنعانقك أكثر، ويزدهر حضورُك فينا.
عزائي، قبل كل شيء، لقلىي الذي يعشق هذا الشاعر الفذ.
ثم، عزائي الكبير للعراق الحبيب، للطين هناك والماء والحجَر والنخيل والقصيد وجميع الرفاق..