- كتب: ضياف البراق
السلطة في العالَم العربي لا تترك شيئًا جميلًا في متناول الناس، ولا قلمًا نبيلًا يُعبِّر بحرية عمّا يشاء، إنها أفعى ضخمة تلتهم رأسَ كل من يحاول تغييرها، أو تهذيبها على الأقل، تضايق أو تخنُق كلَّ صوت يطالبها بحق، فهي مِطْرَقة جهنمية تطحن كل الجماجم المُدافِعة عن حقوق وحريات الإنسان، وهي البشاعة المتوحشة إلى أبعد مدى. وأمّا المعارضة فإنها هي الأخرى لا تخلو من تلك البشاعة التي نجدها في أقوال وأفعال السلطة التي سبق ذكرها. والكاتب الوطني الحر، المُستقِل المُحترَم، فإنه بالتأكيد لا يسلم من أذى وخطر هذه البشاعات الواقفة له بالمرصاد. ولذلك كان الماغوط ممتلئًا بالخوف، كان يشعر بالرعب فيما هو يكتُب ويكافح مُختلَفَ البشاعات، غير أنه لم يكن يجبن أو يخضع أو يتخلّى عن نزاهته الراسخة.
فبقدر خوفه الشديد، كان شجاعًا شديدَ المقاوَمَة، وسلاحه الوحيد في ذلك هو القلم. خُلِقَ ليكتبَ ويُدهِشَ، ليثورَ ويُغيِّرَ، فكانت لُغته مُباغِتة، مُغايِرة، مُثيرَة، خالية من جميع التشوُّهات. كان، وما زال يُدهِشني بما لديه من قدرات جمالية وخصال حميدة ومبدئية عظيمة. تعثّرَ مرّاتٍ ولَمْ يسقُطْ قط. تقدّمَ ولم يتخلّفْ. انتصرَ بقلمه ولمْ يفرحْ. وربما فرح ذات يوم، لكنه لم يتوقف عن البكاء. هو باستمرار في قلب الحدث، لا يبتعد عن خطوط النار، لا يقف كالمُتفرِّج أو الأخرس. هو في الطريق والشارع. هو في الدهشة، في الدموع، في أحلام الفقراء، في أغنيات فيروز، في منعطفات الليل وضجة النهار، في التسكُّع والكتابة. لقد كان، في كل شيء، كان هو تلك القصيدة المُشتعِلة، الطليقة من بشاعة القيود، المُشْبَعَة بالصدق والوجع والتميُّز وخفة الظل. ومن هنا تنبع عظَمته.
أُدخِّن بشراهةٍ متزايدة، مثل العظيم محمد الماغوط. أغوص مثله في الشوارع المخيفة. أنا من قرية وهو من قرية. هو يشعر بالخوف دائمًا، وأنا أتجرّع بحار الخوف حتى حين أقف أمام الفرح، أو أمام صورتي الغريبة. أجدني في آلامه وأحزانه، المكتوبة والتي لم يكتبها. إنّي أُحبّه، في انفجاراته اللغوية والقلبية، في خطواته وألوانه، في حلاوته وكآبته، في غيابه وحضوره. وأُحبّه أيضًا بشراهة. عندما أقرؤه، أشعر بقربه الشديد مني، أشعر بأنه رفيقي الأصيل منذ زمن طويل، فأبكي معه وأضحك بسخرية.
يتكلم قليلًا، ويكتب بغزارة، يتألّم كثيرًا، ويظل شامخًا، من عشّاق الوضوح والبراءة واللغة العربية، يعرّي الأقنعة ويحطّم الأصنام، لا يغرق في مناطق الحياد والنذالة، وإنما يهاجم ويخترِق أعماق الواقع، ليس هو باليائس حدَّ الإفراط، ولا يثق بالأمل، قَلِقٌ على الدوام، غير استعراضي ولا مُتكلِّف، ثائِرٌ صعلوك بالمعنى النبيل لهذه الكلمة. قال مرّة إن الحرب قد لا تُبكيه، إنما قد تُبكيه أغنيةٌ صغيرة، أو كلمة لأُنسي الحاج!
في ملامحه وكلماته ونبضاته، بل أيضًا في شعره ونثره وتفاصيل حياته الشخصية، سنجد الكثيرَ من العذوبة والشهامة والأصالة والتمرُّد والحزن والتشاؤم والمواقف النبيلة. فلسفته هي فلسفته، وأسلوبه هو أسلوبه، وصوته مثلما كان بالأمس عَذْبًا سوف يظل عذبًا.
هذه الأيام، أشتاق إليه يكتب تلك القصيدة المفتوحة الشريفة، يقرؤها بعفوية متناهية، يدخّن في إسراف، ويسعل بين دقيقة وأخرى، يصارع مخالب التخلف والفساد، بمقالاته التهكمية اللاذعة، ييأس لكنه لا يستسلم، يبكي من أعماقه لكنه لا يبتذل دموعه، يصعد من جرح إلى جرح، من فوق إلى فوق، متحديًا العبث والسقوط، ويمضي قُدُمًا رغم أنف القمع والحقد والرعب. هو واضح، صادق، ساخر، ماهر في تفجير أسرارَ الجمال وابتكار الدهشة الفارِقة، جريء في تفكيره، كبير في قضاياه، قريب جدًا من جراحنا وهمومنا وآهاتنا، وقريب أكثر من ذلك إلى هذه اللحظة القاسية التي نمر بها في كل الوطن العربي. ها أنا أعيد قراءته، بشوق وشغف، وأسمع دقّات قلبه الكبير، تهزُّ جدار صدري من الداخل، وأرتشف من رحيق جنونه الاستثنائي، وأقاسمه أوجاعه، فيزداد عشقي للحرية، والكلمة، والسجائر الرديئة أيضًا!
يكتب عن الكوابيس اليومية، عن الأشياء المنسية، عن الناس المسحوقين، عن الإرهاب بكل أشكاله، عن الفقر والمرض والحرمان والخوف، كان ينتفِضُ ويتوهَّج، يسخر من جنون العالَم، ويسخط على مساوئ الواقع العربي، لكن بغير تقليد ولا ابتذال ولا غموض. يكتب فيرتقي باللغة، ويضيف طاقات وجماليات جديدة إلى عالَم الكتابة. ليس الماغوط بالأناني، ولا بالانتهازي، ولا بالبطل المزيَّف، ولا عاش يلهث وراء الشهرة والمصالح الشخصية، ولا سجن نفسه في الانتماءات الضيّقة، بل كان كبيرًا طوال حياته.
ديوانه الشعري “الفرح ليس مهنتي” هذا الديوان الفريد سيبقى يُدهشِني ولو قرأتُه ألف مرة. قرأتُه بالأمس للمرة الثالثة، وأحسستُ بالدهشة والجمال والحرية والصدق، وخرجتُ منه وأنا أتنفَّسُ نورًا جديدًا.
وفي كتابه النثري “سأخون وطني” أبدعَ الماغوط في كل شيء، وأشعل نيرانه في كل مناطق الظلام والخطَر، صرخَ بشدة ضد الظلم والجهل والزيف، فتح عيوننا على حقائق هامّة، وقال لنا: عيشوا بحرية، ولا تنسوا أعداءكم..
- من كتابي (النافذة لا تعني شيئًا).